كانت الشجاعة في العبور، واليوم في الاعتراف.. بالحقيقة
منذ أكثر من نصف قرن والمصريّون يحتفلون في السادس من أكتوبر، ينفخون الأبواق ويرفعون الرايات، ويردّدون النشيد الوطنيّ أمام شاشات تعرض «العبور العظيم». منذ خمسين عاماً والمناهج المدرسيّة المصريّة تروي للأطفال حكاية «النصر المؤزّر»، فيما الكلّيّات العسكريّة في العالم كلّه – من وست بوينت الأميركيّة إلى ساندهيرست البريطانيّة إلى الأكاديميّات الفرنسيّة والروسيّة – تدرّس تلك الحرب بوصفها انتصاراً إسرائيليّاً في نهاية المطاف، وتحلّل كيف حوّلت إسرائيل المفاجأة الأوليّة إلى نصر عسكريّ حاسم خلال أسبوعين.
هذا ما تقوله الكتب العسكريّة المحايدة في كلّ مكان. لكنْ ما الذي يمنع المصريّين، بعد نصف قرن، من قول الحقيقة لأبنائهم؟ ما الذي يجعلهم يصرّون على تكرار الكذبة ذاتها، عاماً بعد عام، كما لو أنّ التاريخ يُكتب بالرغبات لا بالوقائع؟
صحيح أنّ القوّات المصريّة عبرت القناة واخترقت خطّ بارليف في الأيّام الأولى. وهنا ينتهي النصر الموهوم. ما حدث بعد ذلك هو الكارثة التي تتجاهلها المناهج: في الخامس عشر من أكتوبر، فتح أرييل شارون ثغرة ديرسوار، وتدفّقت القوّات الإسرائيليّة إلى الضفّة الغربيّة للقناة. في غضون أيّام، طوّقت الجيش الثالث المصريّ بالكامل – أكثر من 45 ألف جنديّ محاصرون شرق السويس، معزولون عن خطوط الإمداد، بلا ماء ولا طعام. كانوا ينتظرون الموت أو الاستسلام.
والأفظع من ذلك: القوّات الإسرائيليّة باتت على بُعد 101 كيلومتر من القاهرة، تسيطر على الطريق إلى السويس من الغرب، ولا شيء يمنعها من التقدّم نحو العاصمة. لو لم يتدخّل هنري كيسنجر والسوفيات لفرض وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر، لاستسلم الجيش الثالث، ولاحتُلّت مدن القناة، ولوصلت الدبّابات الإسرائيليّة إلى أطراف القاهرة. كانت الهزيمة ستكون أفدح من نكسة 1967، وكانت مصر ستفقد ما تبقّى لها من كرامة عسكريّة.
هذا ما تدرّسه الكلّيّات العسكريّة في العالم. هذا ما يعرفه كلّ ضابط أميركيّ أو بريطانيّ أو فرنسيّ درس حرب أكتوبر. يعرفون أنّ المفاجأة المصريّة الأوليّة كانت تكتيكيّة وذكيّة، لكنّها فشلت استراتيجيّاً في العلم العسكري البحت. يعرفون أنّ النصر العسكريّ كان إسرائيليّاً بلا منازع. يعرفون أنّ مصر خرجت من الحرب في موقف عسكريّ أضعف ممّا دخلتها به.
بيد أنّ السادات فهم شيئاً واحداً حاسماً: أنّ النصر الحقيقيّ لن يأتي من ساحة المعركة. فهم أنّ الحرب، رغم فشلها العسكريّ، حقّقت شيئاً استراتيجيّاً مهمّاً: كسرت الجمود السياسيّ، هزّت إسرائيل من غرورها، ودفعت الأميركيّين إلى تحريك عمليّة سلام جادّة. ذاك كان النصر الاستراتيجيّ الوحيد لحرب أكتوبر: أنّها فتحت الباب أمام المفاوضات التي كانت صعبة قبلها.
ولهذا ذهب السادات بنفسه إلى الكنيست في نوفمبر 1977. لهذا وقّع في كامب ديفيد عام 1978. لأنّه أدرك أنّ الخيار العسكريّ انتهى، وأنّ استعادة سيناء لن تتمّ إلاّ بالسياسة. وفعلاً، في 26 مارس 1979، استعادت مصر كلّ شبر من أرضها. ذاك كان يوم النصر الحقيقيّ. لا السادس من أكتوبر.
لكنّ المصريّين لا يحتفلون بذلك اليوم. يخجلون منه. يسمّونه «استسلاماً»، رغم أنّه أعاد إليهم سيناء كاملة. يسمّونه «خيانة»، رغم أنّه أنهى احتلالاً دام ست سنوات. ويواصلون الاحتفال بحرب خسروها عسكريّاً، يحوّلونها إلى أسطورة، يدرّسونها لأطفالهم على أنّها «نصر»، بينما العالم كلّه يعرف الحقيقة.
المشكلة ليست في تذكّر شجاعة الجنود. المشكلة في الكذب. في تزوير التاريخ. في تربية أجيال على الوهم. لأنّ الكذبة هذه تُنتج وعياً مشوّهاً: جيلاً يظنّ أنّ الهزيمة نصر، وأنّ السلام خيانة، وأنّ الاعتراف بالحقيقة عار. والأفظع أنّها تجعل المصريّين عاجزين عن التعلّم من أخطائهم. كيف يتعلّمون من هزيمة ينكرونها؟
في الكلّيّات العسكريّة الإسرائيليّة، يدرسون أخطاءهم في الأيّام الأولى من الحرب، يحلّلون فشل الاستخبارات، يعترفون بالثمن الذي دفعوه. ثمّ يدرسون كيف قلبوا الطاولة وانتصروا. أمّا في مصر، فيدرّسون الأطفال أنّهم انتصروا من اليوم الأوّل. هذا هو الفارق بين شعب يريد أن يتقدّم وشعب يريد أن يرتاح إلى أوهامه.
الاحتفال الحقيقيّ بكرامة مصر يكون بالاحتفال بيوم 26 مارس، لا بيوم 6 أكتوبر. بالاعتراف بأنّ السادات انتصر سياسيّاً بعد أن خسر عسكريّاً. بقول الحقيقة للأجيال الجديدة: أنّ الحرب فشلت، لكنّ السلام نجح. أنّ العبور كان شجاعاً، لكنّ الثغرة كانت كارثة. أنّ النصر الحقيقيّ تحقّق في كامب ديفيد، لا في سيناء. لكنْ كي يحدث هذا، على المصريّين أن يمتلكوا شجاعة أكبر من شجاعة العبور: شجاعة الاعتراف بالهزيمة العسكرية البحتة.