08 أغسطس 2024

عندما تتحدث الفراولة، ينتفض وادي السيليكون... ويتغير العالم

 
 كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف مساءً في موسكو. جلست في مطعم "بوشكين" الشهير، أحد أرقى المطاعم في العاصمة الروسية، برفقة مجموعة متنوعة من الأصدقاء والزملاء. على يميني، البروفيسور أليكسي، أستاذ علوم الحاسب في جامعة موسكو، وزوجته الدكتورة ناتاليا، الطبيبة المختصة في علاج الأورام. وعلى يساري، دميتري، مهندس في شركة تكنولوجيا روسية رائدة، وزوجته إيرينا، محللة بيانات في شركة معروفة. وأمامي مباشرة، جلس سيرجي، رجل أعمال روسي ومستثمر في مجال التكنولوجيا، وزوجته أولغا، خريجة الفلسفة. تعرفت على هذه النخبة الجميلة عن طريق صديقي الذي كان يعمل بالسفارة الروسية بالرياض سابقًا، ولم يتمكن من الحضور لظروف عمله الخاصة.
 
 بينما كان الجميع يتناولون البورش الروسي الساخن ويرشفون من كؤوس النبيذ الأحمر والفودكا، أمسكت أنا بكأس من الشاي الأسود الروسي المعطر. امتزجت رائحة الشاي العطرة مع أصوات المحادثات المتداخلة، خالقةً جواً فريداً من الألفة والفكر.
 
 فجأة، اهتز هاتفي بإشعار من تويتر. نظرت إليه وشعرت كأن قنبلة رقمية قد انفجرت للتو في يدي. غرد حساب غامض يدعى @iruletheworldmo قائلاً: "مرحباً بكم في المستوى الثاني. كيف تشعرون؟ هل جعلتكم تشعرون؟" وكأن هذه الكلمات الغامضة لم تكن كافية لإثارة العاصفة، جاء الرد الصاعق من سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ OpenAI: "مذهل بصراحة".
 
 شاركت التغريدة مع الجميع على الطاولة، فرأيت الدهشة ترتسم على وجوههم كموجات تسونامي رقمية.
 
 قال أليكسي وهو يضع ملعقته جانباً كما لو أنه يضع جانباً كل ما كان يعرفه عن الذكاء الاصطناعي حتى هذه اللحظة: "هل وصلنا حقاً إلى المستوى الثاني من الذكاء الاصطناعي العام (AGI)؟"
 
 أضافت إيرينا وعيناها تلمعان بمزيج من الفضول والقلق: "وماذا يعني هذا لمستقبل البشرية؟"
 
 شرح أليكسي وهو يرسم بيديه في الهواء كأنه يخط خريطة كونية: "في عالم الذكاء الاصطناعي، الانتقال من المستوى الأول إلى الثاني ليس مجرد خطوة، إنه قفزة كونية. تخيلوا أن الذكاء الاصطناعي من المستوى الأول هو طفل يتعلم الأبجدية، بينما الذكاء الاصطناعي من المستوى الثاني هو عالم فيزياء نظرية يحل معادلات الكون."
 
 تساءلت ناتاليا وهي تنظر إلى شاشة هاتفي كما لو كانت تفحص خلية سرطانية غامضة تحت المجهر: "لكن لماذا كل هذه الضجة حول تغريدة غامضة ورد مقتضب؟"
 
 قلت وأنا أرشف من كأس الشاي الخاص بي: "الإجابة تكمن في الغموض المحيط بحساب @iruletheworldmo. هذا الحساب، الذي يدعي صاحبه أنه 'مواطن عادي'، يبدو وكأنه يمتلك مفاتيح سرية لأبواب OpenAI المغلقة. إنه كالثقب الأسود في عالم التكنولوجيا - غامض، قوي، ويبدو أنه يمتص كل المعلومات من حوله."
 
 علق دميتري وهو يلوح بشوكته في الهواء كأنها مسدس رقمي: "إنه أشبه بذلك الجاسوس في أفلام جيمس بوند الذي يظهر فجأة في حفل كوكتيل ليهمس بكلمات تقلب الطاولة على الجميع."
 
 وضعنا هذا التطور المذهل في سياقه التاريخي، كأننا نحاول وضع قطعة غريبة الشكل في لغز تاريخ البشرية الكبير. في كل مرة حققنا فيها قفزة تكنولوجية كبرى - من اختراع الطباعة إلى الثورة الصناعية إلى عصر الإنترنت - تغير العالم بشكل جذري. والآن، بدا أننا على وشك قفزة أخرى، قفزة قد تجعل كل ما سبق يبدو كخطوات طفل مقارنة بقفزة عملاق.
 
 قالت ناتاليا بعيون تلمع كنجوم في سماء موسكو الليلية: "تخيلوا عالماً تستطيع فيه الآلات تشخيص الأمراض بدقة تفوق أمهر الأطباء. أو تصميم علاجات مخصصة للسرطان بناءً على التحليل الدقيق للحمض النووي لكل مريض. إنه كما لو أن كل خلية في جسم الإنسان أصبحت لها طبيبها الخاص."
 أضاف أليكسي، وكأنه يرى أمامه لوحاً أسود عملاقاً مليئاً بمعادلات معقدة تحل نفسها بنفسها: "أو حل مشكلات الفيزياء النظرية التي حيرت أينشتاين نفسه."
 
 سأل سيرجي بصوت يحمل نبرة من القلق: "لكن ماذا عن الجانب المظلم لهذه التكنولوجيا؟ ألا نخاطر بخلق كائنات قد تتجاوز قدراتنا وتهدد وجودنا؟"
 
 قالت أولغا وهي تضع كأسها على الطاولة بحزم: "هذا بالضبط ما يقلقني. إذا كنا نقترب من خلق كائنات ذكية تضاهينا أو تتفوق علينا، فهل لدينا الحكمة الأخلاقية لتوجيه هذه القوة الهائلة؟ أم أننا كأطفال يلعبون بأسلحة نووية؟"
 
 تأملت في كأس الشاي الخاص بي، ورأيت انعكاس وجهي على سطحه الداكن. قلت: "ربما الأمر أشبه بأننا نحاول قيادة قطار فائق السرعة على سكة حديدية ما زلنا نبنيها أمامنا مباشرة. نحن نخترع المستقبل بسرعة أكبر من قدرتنا على فهم عواقبه."
 في خضم هذه الأسئلة الوجودية، برز مشروع "الفراولة" الغامض الذي تعمل عليه OpenAI كشبح رقمي يلوح في الأفق. هذا المشروع، الذي يهدف إلى تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي في التخطيط والاستدلال العميق، قد يكون المفتاح لفهم كيف ستبدو المرحلة التالية من تطور الذكاء الاصطناعي.
 علق أليكسي وعيناه تلمعان بمزيج من الإثارة والقلق: "إنه أشبه بمشروع مانهاتن للعصر الرقمي. مشروع قد يغير وجه العالم إلى الأبد، تماماً كما فعلت القنبلة الذرية. لكن هذه المرة، قد نكون نصنع شيئاً أكثر قوة وأكثر غموضاً من أي سلاح - نحن نصنع عقولاً."
 
 تدخل دميتري قائلاً: "ولكن ألا ترون أن هذا التقدم قد يكون سلاحاً ذا حدين؟ قد نحل مشكلات معقدة، لكننا قد نخلق أيضاً تحديات جديدة لم نكن نتخيلها من قبل. ماذا لو أصبحت هذه الأنظمة الذكية غير قابلة للسيطرة؟"
 
 ضربت هذه الملاحظة وتراً حساساً، كما لو أن أحدهم قد ضغط على زر الإنذار في غرفة هادئة. فجأة، وجدنا أنفسنا نتأرجح بين الإثارة والخوف، كأننا نقف على حافة هاوية تكنولوجية.
 
 قلت محاولاً إيجاد توازن في النقاش: "ربما علينا أن نفكر في هذا الأمر كما نفكر في الطاقة النووية. إنها قوة هائلة يمكن استخدامها للخير أو للشر. المسألة ليست ما إذا كنا سنطورها أم لا، بل كيف سنضمن استخدامها بشكل أخلاقي ومسؤول."
 أضافت إيرينا: "وهذا يقودنا إلى سؤال أعمق. كيف نعيد تعريف ما يعنيه أن نكون بشراً في عالم قد تتفوق فيه الآلات علينا في كل شيء تقريباً؟"
 غزت نظرة التأمل العميق وجوه الجميع على الطاولة. بدا كل واحد منا وكأنه يحاول استشراف المستقبل من خلال بوابة غامضة، محاولاً رؤية ما يخبئه لنا الغد.
 
 قلت وأنا أرفع كأس الشاي الخاص بي في إيماءة خاتمة: "في النهاية، ربما تكون أعظم قوتنا هي قدرتنا على التعاطف والإبداع والحب - الأشياء التي قد تظل حصرية علينا نحن البشر، مهما بلغت الآلات من الذكاء."
 
 ونحن نغادر المطعم، لمعت أضواء موسكو في الليل، وكأنها تومض برسالة مشفرة عن مستقبل لم يأتِ بعد، لكنه في طريقه إلينا بسرعة البرق. ومع كل خطوة نخطوها على أرصفة هذه المدينة العريقة، شعرنا بأننا نسير على حافة عصر جديد - عصر قد يعيد تعريف ما يعنيه أن نكون بشراً.
 قلت لأصدقائي ونحن نودع بعضنا البعض: "الإجابة على كل هذه الأسئلة تكمن في أيدينا. نحن من سيشكل هذا المستقبل، بقراراتنا وأفعالنا اليوم."
 وبينما استقللت سيارة الأجرة عائداً إلى فندقي، تساءلت: إذا كانت الفراولة قد بدأت بالحديث في وادي السيليكون، فما هي الثمار التي ستنضج في حدائقنا الروسية والعربية؟ هل سنكون مجرد مستهلكين لهذه التكنولوجيا، أم سنكون شركاء في صناعتها وتوجيهها؟
 
 الإجابة، كما يقولون في وادي السيليكون، 'قيد التحديد'- لكن الوقت للعمل هو: الآن.
 وبينما كانت سيارة الأجرة تشق طريقها عبر شوارع موسكو المضاءة، راودتني أفكار عن مستقبل عالمنا العربي في خضم هذه الثورة التكنولوجية. هل سنكون مجرد متفرجين على هامش التاريخ، أم سنأخذ زمام المبادرة ونساهم في تشكيل هذا المستقبل الرقمي؟
 
 تذكرت حينها المبادرات الطموحة التي بدأت تظهر في في الخليج من مدن ذكية إلى مراكز أبحاث متطورة 
 . لكن السؤال الذي ظل يلح علي: هل هذه الجهود كافية لنكون لاعبين حقيقيين في عصر الذكاء الاصطناعي المتقدم؟
 فكرت في شبابنا الموهوب الذي يدرس ويعمل في أرقى الجامعات والشركات التكنولوجية حول العالم. كيف يمكننا الاستفادة من هذه العقول النيرة لبناء قدراتنا الذاتية في مجال الذكاء الاصطناعي؟
 
 وصلت إلى الفندق، وبينما كنت أستعد للنوم، تبلورت في ذهني فكرة: ربما حان الوقت لإطلاق مبادرة خليجية شاملة للذكاء الاصطناعي، مبادرة تجمع بين الحكومات والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية، وتهدف إلى وضعنا على خريطة الابتكار العالمي في هذا المجال الحيوي.
 أغمضت عيني، وأنا أتخيل مستقبلاً حيث تتحدث "الفراولة" العربية بصوت مسموع في وادي السيليكون، وحيث تساهم عقولنا وإبداعاتنا في تشكيل مستقبل البشرية جمعاء.

10 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤