عندما تطأ قدماك أرض وادي السيليكون هذه الأيام، تشعر وكأنك دخلت عالماً من الخيال العلمي. لكن وراء واجهة التقدم التكنولوجي الباهرة، تدور معركة خفية حول مستقبل البشرية. معركة لا تدور رحاها بين الإنسان والآلة، بل بين رؤيتين متناقضتين لمستقبل الذكاء الاصطناعي.
في زاوية الحلبة، يقف سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، حاملاً راية ما يسميه "الذكاء الاصطناعي الديمقراطي". وفي الزاوية الأخرى، يقف العالم بأسره، متسائلاً: هل هذه ديمقراطية حقيقية أم دكتاتورية مقنعة بقناع الحرية؟
دعونا نفكك خطاب ألتمان، كما نفكك جوالاً جديدًا لنرى ما بداخله وهل هو كما تدعي الشركة المصنعة أم لا.
في مقاله بواشنطن بوست، يرتكب ألتمان عدة مغالطات منطقية تستحق التمحيص:
1. مغالطة رجل القش (Straw Man Fallacy): يصور ألتمان المعارضة لرؤيته وكأنها دعوة للاستبداد، متجاهلاً الرؤى البديلة للتعاون الدولي.
2. مغالطة الاحتكام إلى السلطة (Appeal to Authority): يعتمد على مكانة أمريكا كقوة تكنولوجية لتبرير هيمنتها على الذكاء الاصطناعي، متناسياً أن القوة لا تعني بالضرورة الحكمة.
3. مغالطة الانحدار المنطقي (Slippery Slope): يوحي بأن عدم قيادة أمريكا لتطوير الذكاء الاصطناعي سيؤدي حتماً إلى سيطرة الأنظمة الاستبدادية، وهذا استنتاج ترهيبي.
4. مغالطة التعميم المتسرع (Hasty Generalization): يفترض أن نجاح أمريكا في قيادة الإنترنت يعني بالضرورة قدرتها على قيادة ثورة الذكاء الاصطناعي، متجاهلاً اختلاف السياقات والثقافات وتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال وقامات الأشخاص.
5. مغالطة الاستدلال الدائري (Circular Reasoning): يفترض أن الذكاء الاصطناعي الأمريكي سيكون ديمقراطياً لأن أمريكا ديمقراطية، وهو افتراض يفتقر إلى الأدلة بل يناقضها كما علمنا التاريخ.
لكن دعونا نكون منصفين. ألتمان يثير نقاطاً مهمة حول ضرورة وجود إطار أخلاقي وقانوني لتطوير الذكاء الاصطناعي. لكن السؤال يبقى: هل الولايات المتحدة، بتاريخها المعقد في السياسة الخارجية والتدخل في شؤون الدول الأخرى، هي الجهة الأنسب لقيادة هذا الجهد العالمي؟
لنتأمل في المفارقة هنا. ألتمان يدعو إلى "ديمقراطية" في الذكاء الاصطناعي، بينما شركته OpenAI تحتفظ بأحدث نماذجها خلف أسوار عالية من السرية والاحتكار (راجع حوار إيلون ماسك الأخير لتعرف المزيد عن هذه الفضيحة). هذا ليس تعاوناً، بل هو احتكار مقنّع بقناع التعاون! إنه كمن يدعو الجميع لحفل العشاء، ثم "يقلط" على "المفاطيح" بمفرده!
وماذا عن ادعاء ألتمان بأن القيادة الأمريكية ستؤدي حتماً إلى نتائج ديمقراطية؟ هذا تبسيط مخل لتاريخ معقد. نعم، أمريكا قدمت للعالم إنجازات تكنولوجية عظيمة، لكنها أيضاً ساهمت في تعميق الفجوات الرقمية والاقتصادية عالمياً. إنه كمن يقول إن الفيل في غرفة المعيشة سيجعل المنزل أكثر أناقة!
لنتحدث عن الفيل في الغرفة: الاحتكار. ألتمان يحاول تصوير OpenAI كمؤسسة غير ربحية تسعى لتحقيق الصالح العام. لكن في الواقع، الشركة تحولت إلى كيان ربحي مع تعاقدات حصرية مع شركات مثل مايكروسوفت. هذا ليس تعاوناً دولياً، بل هو نادي حصري نخبوي لمحموعة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة من لأثرياء والأقوياء الذين تجمعهم المصلحة الواحدة!
وماذا عن الادعاء بأن الضوابط التنظيمية ستعزز الأمان والديمقراطية؟ هذا كمن يقول إن أفضل طريقة لحماية الغابة هي السماح لشركات قطع الأشجار بوضع القواعد! في الواقع، هذه الضوابط قد تكون وسيلة لتعزيز السيطرة المركزية وتقليل المنافسة.
لنقارن هذا النهج بالنماذج المفتوحة المصدر مثل Llama من Meta وGrok من X. هذه النماذج تُظهر كيف يمكن للشفافية والمشاركة المجتمعية أن تعزز الابتكار والأمان في الذكاء الاصطناعي. إنها كحديقة عامة مفتوحة للجميع، بدلاً من نادي خاص للنخبة.
وهنا يأتي السؤال الجوهري: هل سام ألتمان حقاً مهتم بالديمقراطية العالمية، أم أنه مجرد رجل أعمال ذكي يحاول تأمين مكانة شركته في سوق تنافسية للغاية؟ هل هو فيلسوف التكنولوجيا الذي يدّعيه، أم مجرد بائع ماهر يغلف منتجه بخطاب أخلاقي جذاب؟
إن دعوة ألتمان للقيادة الأمريكية في الذكاء الاصطناعي تشبه محاولة قيادة سفينة فضائية بخريطة بحرية قديمة كتبت في أيام ماجلان.
العالم أكثر تعقيداً وترابطاً من أن تقوده دولة واحدة أو شركة واحدة. مستقبل الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مفتوحاً وشفافاً، قائماً على التعاون الدولي والمشاركة المجتمعية.
فكروا في الأمر: إذا كان الذكاء الاصطناعي هو المحيط الجديد الذي سنبحر فيه جميعاً، فهل نريد أن يكون هذا المحيط محكوماً من قبل قراصنة القرن الحادي والعشرين، أم نريده مفتوحاً للجميع، مع قواعد عادلة تحمي الجميع؟
في النهاية، الخيار لنا. يمكننا أن نختار مستقبلاً يكون فيه الذكاء الاصطناعي أداة لتمكين البشرية جمعاء، وليس وسيلة لتعزيز سلطة القلة. يمكننا أن نختار مستقبلاً يكون فيه التعاون، وليس الاحتكار، هو القاعدة.
وإلى ألتمان أقول: الديمقراطية الحقيقية في الذكاء الاصطناعي لا تأتي من فوق، بل تنمو من الأسفل. إنها ليست هدية تقدمها الشركات الكبرى، بل حق يجب أن يناضل من أجله كل من يؤمن بمستقبل أفضل للبشرية. وإذا كنت حقاً تؤمن بالديمقراطية كما تدّعي، فافتح أبواب OpenAI على مصراعيها، وشارك معرفتك مع العالم. وإلا، فاعترف بأنك مجرد رجل أعمال آخر يسعى وراء الربح، متخفياً وراء قناع المثالية.
فهل نحن مستعدون لهذا التحدي؟ هل نحن مستعدون لبناء مستقبل للذكاء الاصطناعي يكون فيه صوت كل إنسان مسموعاً، وليس فقط أصوات من يملكون أكبر الحواسيب وأعمق الجيوب؟
الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل الذكاء الاصطناعي، بل مستقبل الإنسانية نفسها. فدعونا نختر بحكمة، ولا ندع وهم الديمقراطية التكنولوجية يعمينا عن الحقيقة: أن المستقبل يجب أن يُبنى بأيدينا جميعاً، لا بيد شركة واحدة أو دولة واحدة.
رابط مقال سام التمان:
https://t.co/E05bjeZSS8