01 يوليو 2025

بين دوبامين التيك توك الذي يخدرنا ودوبامين التيد توك الذي لا نعرفه

 ثمة في تجربة العالم الروسي بافلوف مع كلابه ما يشبه حالنا اليوم بشكل مقلق. كان يقرع الجرس قبل تقديم الطعام للكلاب، وبعد فترة صارت الكلاب يسيل لعابها بمجرد سماع الجرس، حتى من دون طعام. نحن اليوم نعيش التجربة ذاتها، لكن الجرس صار نغمة الإشعارات، والطعام صار مقاطع فيديو لا تتجاوز الثواني.
في عالم التيك توك، حيث الإبهام المتعب يتنقل بين المقاطع كمسبحة إلكترونية، نجد أنفسنا أمام آلة عملاقة لصناعة الإدمان المباح. ثلاثون ثانية فقط تكفي لحقن جرعة من الدوبامين في دماغك: ضحكة على مقلب تافه، رقصة لا معنى لها، صرخة تقول "شاهد قبل الحذف"، ومؤخرة تتمايل في إيقاع مدروس.
في مكاتب فخمة في وادي السيليكون و تشونغوانتسون، يجتمع أذكى العقول لهدف واحد: كيف نجعل المستخدم لا يستطيع إغلاق التطبيق؟ يدرسون سلوكك أكثر من أي طبيب نفسي، يعرفون متى تشعر بالملل، متى تضحك، متى تغضب، ويستخدمون هذه المعرفة لتحويلك إلى ما يشبه القطيع المبتسم وهو يساق إلى المسلخ الرقمي
بيد أن في الطرف الآخر من العالم الرقمي يقف التيد توك وحيدا كمعلم عجوز في مدرسة هجرها الطلاب. مقدمة بطيئة، متحدث يختار كلماته بعناية، لا موسيقى صاخبة ولا مؤثرات بصرية. الدماغ المدمن على السكر الرقمي يصرخ: أين المتعة؟ أين الإثارة؟ والإبهام المسكين، الذي تحول إلى أهم عضو في جسدك، يحاول الهروب بحثا عن وجبته المعتادة من النفايات البصرية اللذيذة.
ذاك أن الفرق بين المنصتين ليس مجرد فرق في المحتوى، بل فرق في النظرة إلى الإنسان ذاته. التيك توك يراك مستهلكا سلبيا، آلة لمشاهدة الإعلانات، رقما في إحصائيات "الوقت المستهلك على التطبيق". أما التيد توك فيصر - بسذاجة نبيلة ربما - على أنك كائن عاقل قادر على التفكير والتعلم، لكن عليك أن تدفع ثمن هذا الاحترام: الصبر والتركيز، عملتان نادرتان في سوق الإفلاس المعاصر.
لعل الأكثر إثارة للقلق هو أننا نعرف كل هذا ونستمر. نعرف أن التيك توك يسرق وقتنا، يدمر قدرتنا على التركيز، يحولنا إلى مدمنين. نقول لأنفسنا "خمس دقائق فقط" ونستيقظ بعد ثلاث ساعات وإبهامنا يؤلمنا. نعد أنفسنا بمشاهدة محتوى مفيد "غدا"، وهذا الغد لا يأتي أبدا.
والمفارقة المرة أن من يحاول الخروج من هذه الدائرة ويتجه إلى التيد توك أو أي محتوى جاد ينظر إليه كغريب الأطوار. لماذا تعذب نفسك بمحاضرة عن الفيزياء بينما يمكنك مشاهدة شاب "يضرط" في طبق الدقيق من أجل "التريند"؟
في هذا السياق، يبرز سؤال ملح: متى بالضبط قررنا الاستقالة من إنسانيتنا؟ في أية لحظة سلمنا مفاتيح عقولنا لخوارزميات لا تعرف الرحمة؟
أغلب الظن أن الإجابة تكمن في طبيعة الصفقة التي عرضت علينا: تنازل عن قدرتك على التفكير العميق والتأمل الهادئ، وسنمنحك قدرة لا محدودة على الترفيه السطحي. اترك عقلك عند الباب، وادخل جنة الملذات الرقمية. توقف عن طرح الأسئلة الصعبة، وسنغرقك في بحر من الإجابات السهلة الجاهزة.
حاليًا، وفيما يغرق معظمنا في هذا الطوفان الرقمي، تظهر فئة قليلة من الناس اختارت السباحة ضد التيار. هؤلاء ليسوا أعداء للتكنولوجيا، بل أشخاص أدركوا حقيقة بسيطة: السعادة الحقيقية تأتي من الإنجاز والتعلم والنمو، لا من الاستهلاك السلبي اللامتناهي. اكتشفوا أن الدوبامين الذي يأتي من إنهاء كتاب أو تعلم مهارة جديدة يدوم أطول ويشعر بالرضا أكثر من ألف فيديو عابر.
الدوبامين، في نهاية المطاف، مثل كلب الصيد: يمكن تدريبه ليخدمك، ويمكن تركه ليتحكم فيك. في عالم التيك توك، السلسلة في يد الخوارزمية التي تعرف بالضبط متى تطلق الكلب ومتى تشده. أما في عالم المحتوى الجاد، فالسلسلة - نظريا - في يدك، لكنها تتطلب قوة وصبرا لإمساكها.
والسؤال الذي يجب أن نواجهه بصدق: هل نريد فعلا أن نكون أسياد أنفسنا؟ أم أن العبودية المريحة، العبودية المزينة بالألوان والأصوات والضحكات، صارت أسهل من الحرية المتعبة؟ هل نملك الشجاعة لنقول "كفى" ونغلق التطبيق، أم أننا سنستمر في الانزلاق، فيديو بعد فيديو، حتى نستيقظ يوما لنجد أننا أضعنا سنوات من أعمارنا.
وبينما يواصل إبهامنا المنهك رحلته الأبدية عبر شاشات لا تنام، تبقى الحقيقة المرة ماثلة أمامنا: نحن نعرف أننا مدمنون، نعرف أننا نضيع حياتنا، نعرف أن هناك طريقة أفضل للعيش. ومع ذلك، نستمر. نستمر لأن المقاومة صعبة، والاستسلام سهل جدا.
لكن ربما، مجرد ربما، يكون الوعي بالمشكلة هو الخطوة الأولى نحو الحل. ربما تكون هذه الكلمات، التي تقرأها الآن دون أن يقاطعك إشعار، دليلا على أن الأمل لم يمت بعد. والأمر، في النهاية، يعود إليك. فالكلب الكيميائي ينتظر أوامرك: هل ستدربه ليخدمك، أم ستتركه يقودك حيث يشاء أسياد الخوارزميات؟

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤