12 أبريل 2025

الذكاء الاصطناعي... ذاك الساكن في أحلامنا وكوابيسنا

هل صار الحديث عن الذكاء الاصطناعي، من فرط تكراره، أشبه بنوع من الاعتياد الذي يُفقد الظاهرة جدّتها؟ ولماذا، في المقابل، تُستدعى هذه الظاهرة دائماً بوصفها خطراً داهماً على الوظائف فحسب، فيما هي تطال ما هو أبعد من ذلك بكثير؟
‏ذاك أنّ الذكاء الاصطناعي ليس مجرّد تهديد لسوق العمل كما يزعم البعض، بل هو تحدٍّ لفكرة العمل نفسها وللمعنى الذي استقرّ في وعينا الجمعيّ. نحن أمام "زلازل" وجوديّة تعيد تشكيل المفاهيم وتفرض علينا إعادة التفكير ليس في كيفيّة كسب العيش فحسب، بل في الوجود برمّته.
‏العمل، ذلك السجن المريح الذي بنيناه لأنفسنا قروناً، يهدّده زلزال رقميّ يقتلع الأعمدة مع جذورها. ويبدو المشهد، مع كلّ اختراع جديد، كما لو أنّ البشريّة تحفر قبرها الوظيفيّ بيديها، فيما هي تصفّق لذكائها الذي بات يتكاثر خارج جمجمتها.
‏كثيراً ما توصف الثورات التقنيّة الكبرى بأنّها تسحق وظائف وتخلق أخرى، وهذا صحيح بالتأكيد. لكنّ الثورة الحاليّة تتجاوز هذا المنطق حين تولّى الآلة – الرقميّة هذه المرّة – إعادة ترتيب مكانة الإنسان نفسه.
‏فحين يتحول العمل الذي كان يتطلّب سنوات من التأهيل والدراسة والخبرة إلى مهمّة تؤدّيها خوارزميّة في ثوانٍ، نكون قد استبدلنا لا الموظّف فحسب، بل مفهوماً عريضاً للحياة. وهذا، بطبيعته، يرفع التحدّي من مستوى الاقتصاد إلى مستوى الفلسفة والقيم.
‏وهذا يفضي بنا إلى سؤال أكثر إلحاحاً: كيف نتصوّر مجتمعاً تتراجع فيه قيمة العمل كمحدّد للهويّة الفرديّة والجماعيّة؟ أليس من مفارقات عصرنا أنّ الإنسان قد يصبح، بفضل الآلات التي اخترعها، زائداً عن حاجة المجتمع الذي صنعه؟
‏حين لا يعود العمل هو ما يبرر وجودك، تصبح الحياة حقل أسئلة بلا أجوبة، والمعنى طائر مذعور يبحث عن عشّ في غابة النزعات الاستهلاكيّة. أمّا المواطن الذي كان يعرّف نفسه بمهنته، فيغدو مجرّد مستهلك يستجدي مكانه في سوق التفاهة الكونيّة.
‏إنّ واحداً من أكثر الأوهام انتشاراً في موضوع الذكاء الاصطناعي هو الاعتقاد بأنّ خطره يقتصر على وظائف الطبقة الوسطى والدنيا. لكنّ ما نشهده اليوم هو اقتحام النماذج اللغويّة الكبرى لمجالات كانت تُعتبر حتى وقت قريب محصّنة: كتابة المحتوى، التحليل المالي، وحتى التشخيص الطبّي وإصدار الأحكام القضائيّة.
‏مثلاً: أظهرت دراسات ألمانيّة أنّ الذكاء الاصطناعي قد يتفوّق على الأطباء في تشخيص سرطان الجلد، ممّا يعزّز دوره في التشخيص المبكر. وفي القطاع القانونيّ، تستخدم العديد من شركات المحاماة أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل الوثائق، ممّا يقلّل من الاعتماد على المساعدين القانونيّين في المهامّ الروتينيّة. فهل يمرض الناس في المستقبل ليراهم كمبيوتر؟ وهل يحاكمون أمام خوارزميّات؟
‏ويلوح عموماً أنّ المبدأ الذي ينطبق على كلّ مرحلة انتقاليّة كبرى هو نفسه: ليس المهمّ هو ما الذي سيختفي، بل ما الذي سيحلّ محلّه. فإذا كان رأس مال المستقبل ليس المعرفة، التي صارت متاحة للآلة، بل القدرة على فهم العلاقات الإنسانيّة وإدارة المشاعر والإبداع غير النمطيّ، أفلا يعني هذا انقلاباً كاملاً في بنية القيم والمهارات؟
‏وفي واقع كهذا، ستُخلق فجوة جديدة بين من يملكون القدرة على التعامل مع الآلة ومن لا يملكونها. القلق من الفجوة الرقميّة ليس جديداً، لكنّ الذكاء الاصطناعي رفع هذه الفجوة إلى مستوىً آخر. 
‏لم يعد الأمر مجرّد امتلاك أداة، بل القدرة على التفاوض مع تلك الأداة، والتي تحوّلت إلى كائن شبه مستقلّ، وصارت تشبه مرآة سوداء تعكس قسوة التفاوت البشريّ أكثر مما تعكس عبقريّة الإنسان.
‏في عالمنا العربيّ، والمشرق العربيّ منه خصوصاً، يبدو أنّنا دخلنا هذا المعترك متأخّرين كعادتنا. فالذي يؤرّق قوانا السياسيّة ومثقّفينا ليس الذكاء الاصطناعي، بل الحنين إلى عصر "الوحدة" و"المقاومة" و"الأمّة". إنهم يحاربون أشباح القرن الماضي، فيما يتسلّل شبح القرن الجديد من تحت أقدامهم.
‏لكنّ الذكاء الاصطناعي، وهذا ما لا ينتبه إليه كثيرون، يهدّد الدولة الوطنيّة نفسها. إذ يتنبّأ البعض بنشوء طبقة عالميّة جديدة من "مواطني الرقمنة" الذين لا ينتمون إلى مكان، بل إلى شبكات التواصل والمنصّات الرقميّة. وحينها، أليست الهويّة الوطنيّة مجرّد وهم قديم تجاوزته التكنولوجيا بأشواط؟
‏لهذا نجد السعوديّة أكثر إقداماً على فهم تحوّلات المستقبل، مع مشروعها الضخم "نيوم". السعوديّة لا تراقب المستقبل من شرفة التاريخ، بل تركض حافية نحوه في صحراء البيانات. وإذ تعي أهميّة المرحلة المقبلة، فإنّها تخوض رهانها على المستقبل في سباق مع الزمن.
أما غالب دولنا فتبدو مشغولة بنزاعاتها المحليّة والإقليميّة، غير مدركة أنّ ميزان القوى العالميّ قد تغيّر بالكامل. وكأنها تتنازع حول سفينة غارقة، بينما تمخر سفن المستقبل عباب البحر بعيداً عنها.
‏السؤال المطروح اليوم: هل من الممكن اختراع وعي مختلف للعمل والإنتاج، أم أنّنا محكومون بانهيار حضارة وولادة حضارة أخرى؟ أغلب الظنّ أنّ المجتمعات التي ستنجو هي تلك التي ستعيد توزيع الثروة وإعادة تعريف معنى العمل والإنتاج.
‏الدخل الأساسيّ الشامل، وهو فكرة قديمة تعود إلى القرن السادس عشر، بات اليوم أكثر إلحاحاً من أيّ وقت مضى. لكنّ تطبيقه يتطلّب زلزلة صروح الضرائب والملكيّة، ما يجعل الديناصورات العابرة للقارّات أكثر عداءً لفكرة الإنصاف من عدائها لفكرة الخسارة.
‏وفي عالم تُنتج فيه الآلة كلّ شيء بأرخص ممّا ينتجه الإنسان، قد نحتاج إلى نوع من "التعرفة الرقميّة" لا حمايةً لسوق العمل فحسب، بل حماية للإنسان من أن يصبح مجرّد خيار غير اقتصاديّ.
‏هل نضع ضريبة على المنتج آليّ الصنع كي يساوي المنتج بشريّ الصنع؟ هذه الفكرة، وإن بدت ساذجة، تعترف بأنّ المسألة تجاوزت الإنتاج إلى وعينا لقيمة الإنسان نفسه.
‏بيد أنّ المسألة ليست اقتصاديّة فحسب، بل فلسفيّة بالدرجة الأولى. ذاك أنّ العمل كان دائماً طريقة لإكساب الحياة معنىً. فإذا لم يعد العمل هو ما يمنح المعنى، فما الذي يحلّ محلّه؟ هل نحن مستعدّون لحياة بلا مهام؟ وكيف ستبدو غابة الأفكار حين تذبل فيها أشجار العمل والإنتاج والمهنة؟
‏الخطر الحقيقيّ للذكاء الاصطناعي ليس في قدرته على أخذ وظائفنا، بل في قدرته على تشويه علاقتنا بالمعنى. وإذا كان التقدّم التقنيّ يحرّرنا من عمل لا نحبّه ويمنحنا فرصة لاختيار حياة أفضل، فهذا أمر جيّد. لكنّ الخوف من أن يحلّ الذكاء الاصطناعي محلّ الذكاء البشريّ في تحديد قيمنا وأولويّاتنا هو خوف مشروع.
‏قد لا تكون المعركة في من يسبق لتطوير الذكاء، بل في من يسبق لفهم عواقبه. لأنّ المجتمعات التي لا تعيد تعريف علاقتها بالمعنى، ستنهار تحت ثقل تفاهة فائقة السرعة.
‏فالاستجابة البشريّة للذكاء الاصطناعي ليست تقنيّة بقدر ما هي ثقافيّة واجتماعيّة. ومن سيخسر هم الذين يتسلّحون بالخوارزميّات من دون أن يحصّنوا المجتمع ضدّ عبثيّة رقميّة مبتكرة.
‏المنعطف الذي ننتقل إليه اليوم هو انتقال نوعيّ في الوعي البشريّ. نحن نتحوّل من مجتمع يقوم على الإنتاج والعمل إلى مجتمع آخر لا نعرف بعد ملامحه تماماً. كلّ ما نعرفه أنّه مختلف جذريّاً عمّا عرفناه.
‏أصل المشكلة ليس التكنولوجيا، بل ضعف تخيّلنا. لم تدمّر السيّارة العالم، مع أنّها -تقريبًا- قضت على مهنة سائق العربة. وربّما لن يدمّر الذكاء الاصطناعي العالم أيضاً. لكنّه بالتأكيد سيغيّره بطرق لا نستطيع فهمها اليوم، مخلّفاً بيننا أنقاض المعاني القديمة كأطلال معبد انهار تحت زلزال لم نستعدّ له.
‏وهذا ما يذكّرنا بسؤال قديم طرحه ماركس: من يملك أدوات الإنتاج؟ هذا السؤال لم يفقد راهنيّته، لكنْ علينا أن نضيف إليه: من يملك خوارزميّات المستقبل؟ لأنّ من لا يملك الخوارزميّات، لن يكتب المستقبل... بل سيُكتب له.

8 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤