15 أغسطس 2024

اللفياثان الذهبي: هل حوّلت السعودية كابوس هوبز إلى نهضة عربية؟

 ألا يبدو لنا المشهد السياسي العربي اليوم أشبه بمسرحية عبثية كتبها مخرج مجنون، حيث تتهاوى الأنظمة "الثورية" كأحجار الدومينو، بينما تقف الملكيات الخليجية - وعلى رأسها السعودية - شامخة كالنخيل في وجه العواصف؟ كيف تحولت مملكة الرمال، حيث كانت القبائل تتناحر على واحة ماء، إلى قوة اقتصادية تنافس عمالقة وادي السيليكون؟ وما سر هذه المعادلة السياسية الفريدة التي تجمع بين صرامة الدولة الحاضنة للتناقضات والمتسامية عليها في آن، ورفاهية دولة الرعاية الاجتماعية؟
 
 1. من لفياثان هوبز إلى التنين الصحراوي:
 لنبدأ رحلتنا الفكرية من نقطة البداية: توماس هوبز وكتابه "اللفياثان" ذلك الوحش البحري الذي تخيله الفيلسوف الإنجليزي كتجسيد للدولة القوية. ذاك أن هوبز، في لحظة تشاؤم فلسفي عميق، رأى الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان. في "حالة الطبيعة" - أي غياب السلطة المركزية القوية - تكون الحياة "قذرة، وحشية، وقصيرة". الحل؟ تنازل الناس عن حرياتهم لصالح حاكم مطلق، "لفياثان" يحميهم من أنفسهم ومن بعضهم البعض.
 بيد أن العبقرية السعودية لم تقف عند حدود استنساخ نظرية هوبز. بل مزجتها بتراث الحكم الإسلامي، وخاصة التجربة الأموية والعباسية، حيث كان الخليفة يجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية. ثم أضافت إلى هذا المزيج الفريد عصارة التقاليد العربية الأصيلة، لتنسج عقداً اجتماعياً فريداً لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري. ألا يشبه هذا كيمياء سياسية غريبة تمزج بين فلسفة هوبز القاتمة، وحكمة الخلفاء، وحنكة آل سعود؟
 
 2. العقد الاجتماعي الذهبي: صفقة القرن أم وهم كبير؟
 في حين تتشدق الديمقراطيات الغربية بوهم الحرية والمساواة - وهو ثوب مستعار يبدو أنيقاً على المانيكان، لكنه يتمزق عند أول اختبار حقيقي - قدمت المعادلة السعودية الفريدة في فن الحكم والتدبير السياسي لشعبها صفقة العمر: استقرار سياسي وازدهار اقتصادي مقابل ولاء سياسي.

 هذا العقد الاجتماعي الفريد يستند إلى ثلاث ركائز أساسية:
 
 أ. الشرعية الدينية: الملك ليس مجرد رئيس دولة، بل هو "خادم الحرمين الشريفين" لقب يمنح النظام الملكي قدسية تتجاوز الشرعية السياسية العادية.
 ب. التقاليد العريقة: نظام الحكم السعودي يستفيد من التقاليد السعودية العريقة، حيث يُنظر إلى الملك كشيخ القبيلة الكبرى "الوطن" . هذا يخلق رابطة عاطفية قوية بين الحاكم والمحكوم، تتجاوز العلاقة الباردة بين الناخب والمنتخَب في الأنظمة الديمقراطية.
 ج. الإنجاز التنموي: الشرعية في السعودية لا تعتمد فقط على التاريخ والتقاليد، بل على الإنجاز الملموس. النهضة العمرانية والاقتصادية التي تشهدها المملكة هي المصدر الحقيقي لشرعية الحكم.
 
 ألا يشبه هذا العقد الاجتماعي الفريد نسيجاً متيناً، خيوطه الذهب والحرير والفولاذ؟ فهل يمكن لأي "ديمقراطية" مستوردة أن تنسج مثل هذا النسيج المتين؟
 
 3. المرونة الاستراتيجية: رمال متحركة وجبال راسخة
 على عكس تصور هوبز للفياثان كوحش صلب لا يتغير، أبدعت السعودية نموذجاً للحكم مرناً كالرمال وقوياً كالجبال. نعم، السلطة مركزية وحاسمة، لكنها أيضاً قادرة على التكيف بسرعة مذهلة مع المتغيرات العالمية. 
 
 ولعل أبرز مثال على هذه المرونة هو تعيين الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد. في لحظة فارقة، أدرك الملك سلمان أن المملكة تحتاج إلى قيادة شابة تفهم لغة العصر وتحدياته. هذا القرار الجريء، الذي كسر التقاليد المعهودة، أثبت قدرة النظام الملكي على التجدد والتكيف مع متطلبات المرحلة
 من السماح بقيادة المرأة للسيارة إلى إطلاق مشاريع مستقبلية كمدينة "نيوم" و"ذا لاين" ومشاريع "البحر الأحمر" و "القدية" والقائمة تطول، هذه الأمثلة تبين: أن النظام السعودي يتطور بسرعة تجعل الديمقراطيات الغربية تبدو كسلحفاة عرجاء في سباق مع "شاهين" يلاحق طريدته. هذه المرونة هي سر قدرة النظام السعودي على البقاء والازدهار في عالم متقلب.
 
 ألا يذكّرنا هذا بما قاله دكتور الإدارة الأمريكي ليون ميجينسون: "البقاء ليس للأقوى أو الأذكى، بل لمن يتكيّف مع التغيير بشكل أفضل"؟ فهل وجدت السعودية معادلة البقاء السياسي في القرن الحادي والعشرين؟
 
 4. الحصانة ضد الفوضى: درع ذهبي في وجه العاصفة
 انظروا إلى خريطة العالم العربي. العراق، سوريا، ليبيا، مصر ، كلها دول تخلت عن نظامها الملكي، وها هي اليوم غارقة في بحر من الدماء والفوضى أو تعاني من أزمات اقتصادية خانقة. السعودية ودول الخليج؟ واحات استقرار وازدهار تتحدى كل التوقعات. 
 
 لماذا؟ لأن المعادلة السعودية والخليجية الفريدة في فن الحكم نجحت في تحقيق ما فشلت فيه الديمقراطيات الغربية المستوردة: منع "حرب الكل ضد الكل" التي حذر منها هوبز. في حين تغرق الدول "الديمقراطية" في صراعات طائفية وحزبية لا تنتهي، تقف دولنا كصخرة صلبة في وجه أمواج الفوضى الإقليمية.
 ألا يشبه هذا ما أكّده الفيلسوف الألماني هيجل حين قال: "الحرية هي إدراك الضرورة"؟ فهل أدركت الشعوب العربية ضرورة الاستقرار قبل الحرية الشكلية؟
 
 5. سرعة اتخاذ القرار: سيف حاد في يد حكيمة
 إن من أهم أسباب نجاح الملكية المطلقة في السعودية ودول الخليج الأخرى هو القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة بسرعة ودون عوائق بيروقراطية. في حين تتعثر الديمقراطيات في متاهات التصويت البرلماني والصراعات الحزبية، تستطيع القيادات السعودية والخليجية إطلاق مشاريع عملاقة وتنفيذ إصلاحات جذرية في لمح الصر.
 
 هذه السرعة في اتخاذ القرار هي ما مكّن دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، من تحويل دبي من قرية صيد صغيرة إلى مركز مالي عالمي في أقل من جيل واحد. وهي ذاتها ما يمكّن قطر من استضافة كأس العالم بنجاح منقطع النظير، متحدية كل التوقعات والصعوبات.
 ألا يذكرنا هذا بحكمة الاستراتيجي العسكري الصيني صن تزو: "القائد الحقيقي هو من يتقدم دون طمع في الشهرة، ويتراجع دون خوف من العار، همه الوحيد حماية وطنه وخدمة شعبه"؟ فهل اكتشفت دول الخليج سر النصر في معركة التنمية والتقدم؟ لا ضرورة لخطاب شعبوي ولا مساومات سياسية مع فاسدين يدعون تمثيلهم للشعب؟ 
 
 6. الشرعية التاريخية والمعرفة المتراكمة: جذور عميقة وأغصان مورقة
 إن ما يميز الأسرة المالكة السعودية، وكذلك الأسر الحاكمة في دول الخليج الأخرى، هو الشرعية التاريخية والمعرفة المتراكمة عبر الأجيال. فآل سعود لم يأتوا من فراغ، بل هم نتاج تاريخ طويل من الحكم والقيادة يمتد لأكثر من 300 عام.
 
 هذا العمق التاريخي يمنح القيادة السعودية فهماً "جينيًا" فريداً لعقلية شعبها وتطلعاته، فهماً لا يمكن اكتسابه من خلال استطلاعات الرأي أو صناديق الاقتراع. إنه فهم متجذر في الوجدان الجمعي، مثل نهر جوفي يغذي واحة الاستقرار والازدهار في صحراء الاضطرابات السياسية.
 
 ألا يشبه هذا ما أشار إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: "إن الملك غاية للعصبية"؟ فهل نجح آل سعود في تحويل عصبية القبيلة إلى عصبية الوطن؟
 
 7. تحذير من الملكية الدستورية: سراب في صحراء السياسة
 إن الدعوات إلى تحويل النظام السعودي إلى ملكية دستورية هي، في حقيقتها، محاولة لزرع لغم في قلب العقد الاجتماعي الفريد الذي أثبت نجاحه على مدى عقود. ذاك أن هذا التحول ليس مجرد تغيير في شكل الحكم، بل هو انقلاب جذري على جوهر النظام السياسي والاجتماعي السعودي.
 
 لنتأمل في العواقب المحتملة لمثل هذا التحول:
 
 أولاً، سيثير حفيظة أفراد الأسرة المالكة وأحفاد القبائل المشاركة في التأسيس. ألا يعني هذا تقويضاً للتوازنات الدقيقة التي أرساها الملك عبد العزيز؟
 
 ثانياً، قد يؤدي هذا التحول إلى تشكل تحالفات قبلية وأيديولوجية خطيرة. فالقبائل، التي تم احتواؤها تحت مظلة الدولة الموحدة، قد تعود إلى التنافس فيما بينها للسيطرة على مفاصل الدولة. أما الحركات الأيديولوجية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، فقد تجد في هذا التحول فرصة ذهبية للتغلغل في النظام السياسي. ألم نر هذا السيناريو يتكرر في دول عربية أخرى؟
 
 ثالثاً، إن تجربة الكويت تقدم لنا درساً قاسياً في هذا الصدد. فقد أدى النظام البرلماني هناك إلى تحالف قبلي-إخواني يتبنى خطاباً شعبوياً، مما أدى إلى شلل الحركة السياسية وتعطيل عجلة التنمية؛ مما دفع أميرها الشحاع لأتخاذ قراراته التاريخية مؤخرًا لإرجاع الكويت لمسارها الصحيح. هل نريد للسعودية، بثقلها الاقتصادي والجيوسياسي، أن تقع في نفس المطب؟
 
 ألا يذكرنا هذا كله بقول المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل: "الديمقراطية تمنح الحرية للشعب، ولكنها لا تضمن له الحكمة في استخدامها"؟ 
 
 الواقع يقول أن الملك في السعودية تحته عشرات الالاف من الملكيات الأخرى الصغرى ولكن دون اللقب الملكي، كلها تدين للملك بالولاء والطاعة، والملك ينظم مصالحهم بما يخدم المصلحة العامة للشعب، هذه معادلة معقدة جدا لا يفهمها إلا القلة من الخبراء السعوديين، ولا يفهمها أحد من سكان ماوراء البحار مطلقًا!
 
 ولعل أخطر ما في دعوات الملكية الدستورية هو ارتباطها بمخططات خارجية تستهدف استقرار المملكة. فقد كشفت الحقائق عورة "كوهين السعودية" وهو مستشار أمني سابق في وزارة الداخلية، ثم وزير دولة، خائن للقسم، ثبت تورطه في مخطط خطير لتحويل المملكة إلى ملكية دستورية على النمط البريطاني، بهدف تمكين جماعة الإخوان المسلمين من السيطرة على مفاصل الدولة ورئاسته لمجلس وزرائها ويتحول المفتى فيها إلى مرشد عام جماعة الاخوان المسلمين بالمملكة، صاحب المقولة الشهيرة في رهانه على كوهين: " إن قواعد اللعبة قد تغيرت". ولماذا التروية؟ أقصد بوضوح الحرباء سلمان العودة، من وصفه غازي القصبي رحىه الله بأنه يحلم أن يكون "خميني السعودية". 
 
 هذا المخطط، الذي كان جزءاً من أجندة أوسع لإدارة أوباما وهيلاري كلينتون لإيصال الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في الدول العربية، كاد أن ينجح لولا يقظة القيادة السعودية. فقد استطاع "كوهين السعودية" التغلغل في أعلى مستويات وزارة الداخلية، مستغلاً نفوذه لتعطيل قرار تجريم جماعة الإخوان المسلمين. بل إن نفوذه وصل إلى حد تعيينه وزيراً للدولة ومسؤولًا عن أهم الملفات السيادية بسبب الثقة اللامتناهية من رئيسه ولي العهد السابق، حتى كشف الأمير محمد بن سلمان المخطط القذر، مما اضطر 'كوهين السعودية' للهرب واللجوء السياسي بحماية استخبارات أجنبية بعد أن اختلس مبلغاً يتجاوز العشرة مليارات دولار.
 
 إن قصة 'كوهين السعودية' تكشف عن حجم المؤامرات التي تحاك ضد المملكة، وتؤكد حكمة القيادة السعودية في التمسك بنموذجها الفريد في الحكم. فالملكية المطلقة، بما توفره من استقرار وقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، هي الحصن المنيع أمام مثل هذه المخططات.
 
 8. القفزة الحضارية: من خيام البدو إلى ناطحات السحاب
 في أقل من جيل واحد، حولت السعودية صحراءها القاحلة إلى جنة عدن تكنولوجية تتحدى الخيال. الرياض تتحول إلى مختبر حي للمدن الذكية. وتفرض نفسها كوجهة سياحية عالمية. مشروع "نيوم" يعد بإنشاء مدينة المستقبل التي ستجعل وادي السيليكون يبدو كقرية بدائية.
 
 هذا التحول المذهل لم يكن ليتحقق في ظل نظام سياسي متقلب يتغير مع كل دورة انتخابية. إنه نتاج مباشر للمعادلة السعودية الفريدة في فن الحكم والتدبير السياسي، التي تجمع بين استقرار الملكية المطلقة ومرونة الإدارة الحديثة. 
 
 ألا يذكرنا هذا التحول بما قاله الموسيقار النمساوي غوستاف مالر: "التقليد ليس عبادة الرماد، بل نقل الشعلة"؟ فهل نجحت السعودية في تحويل تقاليدها إلى وقود للتقدم؟
 
 9. نموذج للعالم: درس في فن الحكم
 بينما تنهار منظومة القيم في الغرب رأسًا على عقب، وتغرق دولها في استقطاب حاد بين اليمين واليسار، وصراعات ديموغرافية جذرية، نجد السعودية تستعد لاستضافة المعارض والفعاليات العالمية، وتخطط لغزو الفضاء، وترسم ملامح اقتصاد المستقبل. إنها نموذج يجمع بين قوة الدولة وحكمة القيادة ورفاهية المواطن بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث.
 
 ألا يذكرنا هذا بتحذير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي: "الحضارات تموت منتحرة، لا مقتولة"؟ فهل وجدت السعودية الترياق ضد الانتحار الحضاري والاجتماعي الذي يهدد الغرب؟
 
 في الختام، دعونا نواجه الحقيقة الصارخة التي يحاول البعض إنكارها: المعادلة السعودية الفريدة في فن الحكم والتدبير السياسي ليست مجرد تطبيق لنظرية هوبز، بل هي تطوير عبقري لها. إنها مزيج فريد يجمع بين حكمة الفلاسفة الغربيين، وتجربة الخلافة الإسلامية، وخصوصية المجتمع العربي، وتاريخ الجزيرة العربية بكل غموضه وتعقيداته. 
 نعم، هناك تحديات. نعم، المستقبل يحمل أسئلة صعبة حول استدامة هذا النموذج في عالم متغير. لكن التاريخ علمنا أن النظام السعودي قادر على التكيف والتطور بسرعة تذهل حتى أشد منتقديه. إنها ليست مجرد دولة، بل درس في كيفية بناء الحضارات في القرن الحادي والعشرين.
 فهل آن الأوان لأن يعترف العالم بأن "اللفياثان الذهبي" السعودي قد يكون هو النموذج الأمثل للحكم في عصرنا المضطرب؟ الإجابة، بكل وضوح وجرأة: نعم، وبدون أدنى شك!

14 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤