في الصين، وليس مصادفةً أنّها الصين، تطلّ علينا تجربة "Agent Hospital" كآخر صيحة في سلسلة مشاريع القرن الحادي والعشرين لتهميش الإنسان. والحال أنّ هذا المستشفى لا يزال مجرّد محاكاة رقميّة تجريبية لم تُستخدم مع مرضى حقيقيين بعد، لكنّها تعكس مستقبلاً يقترب بخطى متسارعة.
فماذا يعني أن يُبنى مستشفى افتراضيّ بالكامل، يعمل فيه "أطباء" آليّون، و"ممرّضات" رقميّة، ويراجعه "مرضى" خياليّون؛ كل ذلك دون حاجة للأنفاس البشريّة؟ إنّه، ببساطة، امتدادٌ للنموذج الصينيّ الذي استطاع أن يُحدث "معجزة" اقتصاديّة باهرة مبنيّة على "شيوعيّة رأسماليّة" وديكتاتوريّة "ذكيّة" ورقابة "عقلانيّة".
والحال أنّ المستشفى الذكيّ ليس مبنىً من الإسمنت والزجاج، بل هو، في واقع الأمر، نظام معلوماتيّ يحاكي عمل المستشفيات الحقيقيّة. وبحسب تقارير المشروع، فإنّ "طبيباً" رقمياً واحداً استطاع معالجة 10 آلاف مريض افتراضي في أيام معدودة؛ وهو رقم يحتاج الطبيب البشري إلى سنتين على الأقل لإنجازه. ناهيك عن دقّة تشخيص تصل إلى 93% في بعض الاختبارات؛ متفوّقةً على أداء الأطباء حديثي التخرج.
وحين نقرأ هذه الأرقام، نتساءل: هل سيكون الطبيب البشريّ قريباً مجرّد ذكرى من عالم مندثر، تماماً كمصير عامل المصنع اليدويّ في زمن الثورة الصناعيّة الأولى؟
إنّنا هنا أمام معضلة كبرى؛ فمن جهة، يُبشّرنا دعاة التقدم التقنيّ بأنّ هذه المنظومة ستُنهي معاناة سكّان المناطق النائية المُحرومين من الخدمات الطبيّة، وستُجنِب المرضى انتظار أشهر لحجز موعد طبيب مختصّ، وستُقلّص تكاليف العلاج الباهظة. ومن جهة أخرى، تواجِهُنا أسئلة وجوديّة: مَن يُقرّر ما هي "الكفاءة" في الرعاية الصحيّة؟ هل هي سرعة التشخيص؟ أم دقّة العلاج؟ أم تلك النظرة المُطمئنة التي يلقيها الطبيب البشريّ على مريضه المذعور؟
ثمّة جانب آخر مُقلق يشبه، إلى حدّ بعيد، ما حدث في مشاريع الاقتصاد الموجّه الكبرى: التحكّم المطلق بالمعلومات. فالطبيب الذكيّ يتغذّى على ملايين البيانات الطبيّة التي تُجمَع من المرضى، ويُحلّلها. أغلب الظنّ أنّ هذه البيانات ستصبح مادّة ثمينة لبناء نماذج ربحيّة هائلة. وإن كان هذا مقبولاً في الصين؛ فكيف سيستقبله العالم العربيّ، الذي يُعاني أصلاً من هشاشة بُناه الطبيّة، ومن انعدام ثقة مواطنيه بمؤسّساته الصحيّة؟
التجربة السورية، تُعلِّمنا درساً قاسياً: فحين تنهار المنظومة الصحيّة، وتهرب الكفاءات، يصبح الطبيب – ذلك الإنسان الذي يُحارب بوسائل بدائيّة أحياناً – خطّ الدفاع الأخير ضدّ الموت. فما بالك لو كان هذا الطبيب مجرّد خوارزميّة لا ترى ولا تشعر؟
في عصر الهويّات المتصارعة، قد يبدو النموذج الصينيّ المتمثّل في "المستشفى الذكيّ" وجهاً آخر من أوجه الصراع على مستقبل العالم. ذاك أنّ الصين تبني، بهدوء وثبات، البديل "العقلانيّ" للنموذج الغربيّ: كفاءة عالية من دون "ثرثرة" ديمقراطيّة، وإنجازات تقنيّة هائلة من دون "رفاهيّة" حقوق الإنسان، ورعاية صحيّة متقدّمة من دون "بذخ" العلاقة الإنسانيّة.
والسؤال الأخطر: هل سيجد هذا النموذج طريقه إلى مجتمعاتنا العربيّة؟ في لبنان، حيث يتقاطع انهيار المنظومة الصحيّة مع انهيار الدولة، قد تبدو فكرة "المستشفى الذكيّ" فرصة ذهبيّة للتخلّص من "عبء" التأمين الصحيّ. وفي أوطان الخليج، قد يُنظر إلى هذه التقنية كآخر صيحة في التقدّم الحضاريّ، دون تفكير عميق بتداعياتها الاجتماعيّة. أمّا في مصر، فقد يُمثِّل هذا المشروع إغراءً لدولة تئنّ تحت ضغط ديموغرافيّ هائل.
بيد أنّ ثمّة خصوصيّة للعلاقة بين المريض والطبيب في مجتمعاتنا؛ فالطبيب، في الوعي الجمعيّ العربيّ، هو مستودع للأسرار، ومقدِّم للمشورة، وطرف في علاقة ثقة يصعب تخيّل اختزالها في شاشة كمبيوتر.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نقع في فخّ رفض التقنية بالمطلق. فالتكامل بين الذكاء الاصطناعي والطبيب البشري يمكن أن يُثمر نتائج باهرة: نظام ذكيّ يقوم بالمهمّات الروتينيّة ويحلّل البيانات الهائلة، ويُحرِّر الطبيب للاهتمام بما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي: فهم مشاعر المريض، التواصل معه إنسانياً، مراعاة ظروفه الخاصّة.
في الأحوال كافّة، فإنّ "Agent Hospital" ليس مجرّد ابتكار تقنيّ آخر. إنّه منعطف فلسفيّ وأخلاقيّ في رحلة البشريّة مع التكنولوجيا. وحين نتخيّل عالماً تتولّى فيه الخوارزميّات مسؤوليّة رعايتنا الصحيّة، فهل نحن نضع لبنة أخرى في بناء حضارة قد تفقد إنسانيّتها في سعيها المحموم نحو الكفاءة؟ هل نريد أن نكون أكثر كفاءة وأقلّ إنسانيّة؟ أم أنّ قيمتنا الحقيقيّة تكمن في تلك الروح الإنسانيّة التي تتجاوز حسابات التكلفة والعائد؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه علينا المستشفى الصيني الذكي؛ وإجابتنا ستُحدّد ملامح قرننا بأكمله.