هل يمكن أن تنطق الكلمة بلسانين مختلفين، لعصرين متباعدين؟ وهل في النصوص المقدّسة ما يفوق حدود الزمن نفسه؟ ذاك أنّ بعض النصوص، وخصوصاً القرآنية منها، لا تُقرأ فحسب، بل تُكتشف على مراحل زمنية، كما لو أنّها تنتظر تطوّر معارفنا لتكشف لنا عن طبقات أعمق من المعنى. ولعلّ ظاهرة الكون من بدايته إلى نهايته هي أكثر ما يتجلّى فيه هذا الإعجاز.
في آيتين مدهشتين، يرسم النصّ القرآنيّ دورة كاملة للكون: من التوسّع إلى الانكماش، بكلمات قصيرة حادّة، لكنّها تحمل دلالات تتّسع بقدر ما تتّسع معارف الإنسان.
الآية الأولى تصف نهاية الوجود: "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ". والطيّ في لسان العرب ليس التمزيق ولا التلاشي، بل هو حركة منتظمة، تضمّ المنبسط وتعيده إلى حالته الأصلية. لنتخيّل مشهداً بسيطاً أمام أعين العرب الأوائل: كاتبٌ ينشر صحيفته ليخطّ عليها بقلمه، ثمّ يطويها؛ لا ليتخلّص منها، بل ليحفظها.
هنا، تختار الآية من دقائق اللغة ما يجعل النهاية ليست فوضى، بل عملاً مقصوداً منظّماً. إنّه انطواء الوجود على نفسه، كأنّ السماء بكلّ شساعتها ليست إلاّ ورقة في كتاب خالقها. وتكاد هذه الصورة تقترب من عملية الضغط التي نعرفها في زمننا الرقمي، حيث تتحوّل المساحات الشاسعة من البيانات المتناثرة إلى حزمة مركّزة، محفوظة في فضاء ضيّق.
ألا يدهشنا أنّ هذه الصورة البيانيّة البسيطة تبدو اليوم كأنّها وصف مبكر لما يسمّيه علماء الفيزياء "الانكماش الكبير"؛ تلك النهاية المحتملة للكون حيث يتراجع كلّ شيء إلى حالة كثافة شديدة، معاكساً مسار "الانفجار الكبير"؟ كما لو أنّ الآية تقول: ما انبسط سيُضمّ، وما توسّع سيُطوى.
أمّا الآية الثانية، فتتحدّث عن فجر الوجود واستمراره: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ"، و"الأيد" هنا هي القوّة، لا الأيدي الجارحة. "رجلٌ أيِّد" في لسان العرب هو القويّ المتين.
بيد أنّ الإدهاش الحقيقيّ يكمن في عبارة "لَمُوسِعُونَ". لم تقل الآية "وسّعناها" بصيغة الفعل الماضي، ولا "سنوسّعها" في المستقبل، بل اختارت صيغة اسم الفاعل المؤكّد باللام: "لَمُوسِعُونَ" ؛ أي أنّنا الآن، في لحظة تلاوتك للآية، نوسّع السماء. هي حركة مستمرّة لا تنقطع، وليست حدثاً انتهى.
ما بين ضمير المتكلّم الجمعيّ في "إنّا"، وصيغة اسم الفاعل في "لموسعون"، تتّسع الهوّة بين مدارك الإنسان وأبعاد الكون، لكنّ النصّ يختزلها في كلمتين فحسب.
ولعلّ هذا أكثر ما يطابق الكشف الفلكيّ الذي حقّقه إدوين هابل عام 1929، حين أثبت أنّ المجرّات تتباعد، وأنّ الكون في حالة توسّع دائم. بل إنّ اكتشافات لاحقة أظهرت أنّ هذا التوسّع متسارع، لا متباطئ، وهو ما عزّزته فرضية "الطاقة المظلمة" ؛ تلك القوة الغامضة التي تدفع بالكون إلى التوسّع بوتيرة متصاعدة، في ظاهرة لم يكن لكائن بشري قبل القرن العشرين أن يتوقّعها أو يتخيّلها. ومع ذلك، تبدو كلمة "موسعون" كسرّ بيانيّ كان ينتظر نضج العلم ليكشف عن وجهه الآخر.
وقد يتساءل المرء: لماذا لم يلتفت المفسّرون الأوائل إلى هذه الدلالات العميقة؟ والجواب ببساطة: لأنّ المعرفة البشريّة، في كلّ عصر، تقرأ من النصوص ما تستطيع أن تفهمه، لا ما لا تدركه. لكنّ معجزة النصّ القرآنيّ أنّه يحمل إشارات كامنة تنتظر من يراها بعين عصره.
التناغم بين الآيتين يرسم دورة كونيّة كاملة: بناء، توسيع، ثمّ طيّ. ثلاث مراحل أساسيّة في مصير الوجود.
المفردات التي استخدمها القرآن لها معنى بسيط يفهمه كل عربي، بينما تحمل في طيّاتها معانيَ أعمق تتوافق مع اكتشافات عصرنا. وهذا هو جوهر الإعجاز: أن تنطق الكلمة الواحدة بمعنيين مختلفين لزمنين متباعدين. ما فهمه السامع الأوّل من قدرة الخالق على البناء والتوسيع، يفهمه المستمع المعاصر كإشارة إلى آليّة الكون نفسه في بدايته ونهايته.
النصّ القرآنيّ هنا أشبه بشفرة مفتوحة على الزمن. يقرأها كلّ عصر بلغته، ويفهمها كلّ جيل بأدواته المعرفيّة. ليست الكلمات هي التي تتغيّر، بل أعيننا التي تتعلّم كيف تراها من زوايا جديدة. الآيات تبقى كالبحر: كلّما تقدّم العلم غاص أعمق فيها. ولعلّ هذا ما يميّز الكلام الإلهيّ عن البشريّ: أنّه يتجدّد مع تجدّد القارئ نفسه.
هذا يدفعنا نحو سؤال أشدّ إلحاحاً: كم من الإشارات القرآنيّة نمرّ عليها اليوم دون أن نتنبّه إلى دلالاتها العميقة، لكنّها قد تبدو لأجيال المستقبل واضحة وضوح الشمس؟ وهل بقيت في كتاب الله آيات أخرى تنتظر بصبر أن تتكشّف لها حقائق كونيّة جديدة؟
في البدء كان البناء، وفي الختام سيكون الطيّ. والنصّ البيانيّ، بين هذين الطرفين، يتنفّس كما يتنفّس الكون نفسه: انبساطاً ثمّ انقباضاً. وبينهما، تظلّ الكلمة الإلهيّة تكشف عن أسرارها كلّما نضج القارئ واتّسع أفقه.