25 مارس 2025

وهم الخلود الرقميّ: من قصور عاد إلى خوارزميات ما بعد الموت

"وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون" (الشعراء: 129)
منذ أن وعى الإنسان الموت، وهو يصنع أدوات مقاومته. بدأ بالنقوش على جدران الكهوف، ثمّ الأهرامات والمقابر الضخمة، مروراً بالتراكيب الطبيّة المُطيلة للحياة، وصولاً إلى الشريحة المزروعة في الدماغ. الخلود هو الشهوة الدفينة في كلّ حضارة، والقرآن واجهها بسؤال مباشر مفاده بتغير الألفاظ: "فهل أنتم خالدون؟"
ولعلّ من أغرب إعجاز القرآن أن تصف آية وحيدة – بكلمة واحدة لم تتكرّر بأيّة صيغة اشتقاقيّة في القرآن كلّه – مسيرة بشريّة كاملة تمتدّ من عصر عاد حتّى عصر الإنترنت. فكلمة "مصانع" التي وردت في آية واحدة دون مشتقّات (لا صَنَع، لا صانع، لا صناعة) تبدو عابرة للزمان بإعجاز لافت، كأنّها أُفردت لتكون مفتاحاً لفهم ظاهرة إنسانيّة متكرّرة: الغرور الصناعيّ المقترن بوهم الخلود.
هل كان الخطاب القرآنيّ لقوم عاد تاريخاً نقرأه ونعبره، أم أنّه، كحال معظم النصوص التأسيسيّة، يخترق الأزمنة ويعبُر الحواجز ليصل إلينا؟ لقد فسر العلماء كلمة "مصانع على أنها قصور أو قلاع وبعد زمن أضافوا خزانات المياه الضخمة، والآن هل يتغير الحال؟ ذاك أنّ القراءة العصريّة لآية المصانع قد تكشف، لمن أراد التعمّق، مشهداً راهناً ومتجدّداً: الإنسان الرقميّ ومحاولاته الأخيرة للتحايل على الفناء.
من قصور عاد إلى أوهام التكنولوجيا
والحال أنّ قوم عاد، الذين عُرفوا بفرط القوّة وضخامة البنيان، وُصفوا بأنّهم "يتّخذون مصانع"، حيث المصانع هنا تشير إلى القصور العالية والمنشآت الضخمة وربّما آبار المياه. لكنّ المهمّ في الآية ليس الفعل، بل دافعه: "لعلّكم تخلدون". هكذا يُقرأ وهم الخلود كدافع مركزيّ لصناعة الخلد الموهوم.
وهذا النموذج يتكرّر في القرآن مع أنماط متعدّدة من الغرور الإنسانيّ: فرعون الذي صاح: "أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي" (الزخرف: 51)، وقارون الذي قال عن كنوزه: "إنّما أوتيته على علمٍ عندي" (القصص: 78). كلاهما – كقوم عاد – انهار رغم أدوات السيطرة الماديّة التي اعتقد بخلودها.
لم يخطئ قوم عاد في بناء المصانع، بل في الوهم الكامن وراءها. والمعادلة القديمة، عندهم، كانت:
البناء المتين + القوّة = الخلود المُرتجى
هذا الدافع نفسه ظلّ طوال التاريخ البشريّ ثابتاً، ما تغيّر هو نوع "المصانع" التي تُبنى كفزّاعة في وجه الموت.
مصانع عصرنا: من السيليكون إلى ما بعد الموت
ويبدو أنّ ملاحقة آثار هذه الآية وتفاعلاتها المُحتملة في أزمنتنا الراهنة يدفعنا إلى "وادي السيليكون" و"مختبرات الذكاء الاصطناعيّ" و"شركات الهندسة البيولوجيّة" التي تتّخذها الرأسماليّة التكنولوجيّة مصانع جديدة لعلّها تخلد. وفي العصر الرقميّ أصبحت المعادلة:
الذكاء الاصطناعيّ + الهندسة الوراثيّة + الحوسبة البيولوجيّة = الخلود الرقميّ
ولنتوقّف قليلاً أمام بعض هذه "المصانع" المعاصرة، التي قد تبدو غريبة وغامضة لغير المتخصّصين:
١- مشروع "نيورالينك" الذي أسّسه إيلون ماسك، يهدف إلى زراعة شريحة في الدماغ البشريّ تتيح ربطه مباشرة بالحواسيب، وبحسب تصريحات ماسك نفسه، فإنّ الهدف البعيد هو "تخزين العقل البشريّ رقميّاً" كي يتجاوز موت الجسد البيولوجيّ. ألا يشبه هذا تماماً وهم "لعلّكم تخلدون"؟
٢- تقنيّات "أفاتار الموتى" التي تطوّرها شركات ناشئة، وتعتمد على دراسة سجلّ الشخص الرقميّ (رسائله، منشوراته، محادثاته)، ثمّ محاكاة شخصيّته بواسطة الذكاء الاصطناعيّ، بحيث يمكن للأحياء التحدّث مع "النسخة الرقميّة" للميت كما لو كان لا يزال معهم. هكذا نشهد ولادة طبقة جديدة من الكائنات: الموتى-الأحياء رقميّاً، كأنّ الموت مجرّد "عطل تقنيّ" يمكن الالتفاف حوله.
٣- تقنيّات تجميد الجثث (كرايونكس) التي تدّعي إمكانيّة إعادة إحياء الموتى في المستقبل عندما تتطوّر التكنولوجيا الطبيّة بما يكفي. وهنا يُباع الوهم بشكل فجّ وتجاريّ: "نحن لا نبيعك الخلود، نحن فقط نبيعك فرصة أخرى".
٤- نظريّة "التفرّد التكنولوجيّ" التي يروّج لها راي كورزويل وغيره، وتدّعي أنّ البشريّة ستصل إلى نقطة يتمكّن فيها الذكاء الاصطناعيّ من تجاوز قدرات الدماغ البشريّ، بحيث يمكن "تحميل العقل" إلى حواسيب، والاستغناء عن الجسد، والعيش في خلود افتراضيّ.
وهكذا، بدلاً من قصور عاد المرتفعة، نبني اليوم خوارزميّات وشبكات عصبيّة عميقة، لكنّ الوهم واحد: هروب من الموت، انفلات من الفناء، تحايل على اللحظة الأخيرة.
إعجاز المفردة القرآنيّة: "مصانع" كمنظور نقديّ
لن يكون عديم الدلالة أنّ مصطلح "مصانع" لم يرد في القرآن كلّه إلاّ في هذه الآية، في ظاهرة لغويّة تسمّى في الدراسات القرآنيّة "الإفراد اللفظيّ"، حيث تنفرد آية بكلمة لا مثيل لها في باقي المصحف. وهذا الإفراد، في حالة "مصانع"، يبدو وكأنّه إشارة إلى استثنائيّة هذا السلوك البشريّ: الإيهام الصناعيّ بالخلود.
والأكثر دهشة أنّ كلمة واحدة، موضوعة بدقّة في سياقها قبل 1400 عام، تصبح بعد قرون مرآة وتعلير دقيق للعصر الذي نعيشه وللمآزق التي نواجهها. ومع أنّ المفسّرين القدامى فهموا "المصانع" على أنّها قصور ومآخذ مياه وحصون، إلاّ أنّ المعنى الإعجازيّ يتّسع اليوم بشكل أكثر وضوحًا ليشمل "مصانع" من نوع جديد: سيرفرات ضخمة، وخوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ، ومختبرات الهندسة الوراثيّة.
ولأنّ العبرة، وفق القاعدة الأصوليّة، "بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، فإنّ الآية لا تخصّ قوم عاد وحدهم، بل تخاطب كلّ محاولة بشريّة – عبر العصور – لبناء أدوات تُمكّن الإنسان من تجاهل قانون الموت. النصّ القرآنيّ يضع هنا قانوناً حتميّاً: كلّما سكن الإنسان وهم الخلود، سعى لبناء مصنع جديد لتحقيقه.
سؤال القرآن المفتوح: "فهل أنتم خالدون؟"
والصيغة الاستنكاريّة التي تُختم بها جزء الآية ("لعلّكم تخلدون") ليست سوى نظرة متهكّمة إلى محاولات الإنسان الأبديّة للتحايل على الفناء. هذا التهكّم نفسه يتكرّر في موضع آخر من القرآن: "وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون؟" (الأنبياء: 34). كأنّ القرآن يقول للإنسان في كلّ عصر: حتّى لو بنيت قصوراً لا تنتهي، أو خوارزميّات معقّدة، أو شرائح متطوّرة – فستبقى محكوماً بقانون واحد: "كلّ من عليها فانٍ" (الرحمن: 26).
بيد أنّ هذا لا يعني أنّ قوم عاد لم يكونوا ذكاة. لكنّ ذكاءهم تجسّد في الأبنية والمنشآت، فيما يتجسّد ذكاء زمننا الحاليّ في الخوارزميّات والشبكات العصبيّة والذكاء الاصطناعيّ. أغلب الظنّ أنّ قوم عاد كانوا يمتلكون "ذكاءً اصطناعيّاً" من نوع آخر، تجسّد في تصميم منشآتهم التي لم تصمد أمام عنف الريح العقيم.
ومن هنا يمكننا أن نتساءل: ألا تبدو حضارتنا الرقميّة كقوم عاد جدد، يتّخذون مصانعهم الافتراضيّة، يتوهّمون مكافحة الزمن، غير أنّهم محكومون بذات "الريح" التي ستأتي حتماً – وإن تأخّرت – لتكنس وهم البقاء؟
بين صناعة الخلود وقبول المحدوديّة
ولا يلومنّ أحدٌ القرآن على أنّه "ضدّ العلم" أو أنّه "يذمّ البناء". فالنصّ لا يهاجم الصناعة بحدّ ذاتها، بل يهاجم الوهم الكامن وراءها: التأله، ظنّ الإنسان أنّه يستطيع الانفلات من قانون الفناء الكونيّ. هكذا تصبح الآية نبوءةً دائمة: كلّما خيّل للإنسان أنّه "أذكى من الموت"، بنى مصنعاً جديداً... فسقط.
أمّا المشكلة فأنّ مصانع عصرنا الرقميّة لا تكتفي بتجاهل الموت، بل تتّجه نحو إلغاء الإنسان نفسه، أو استبداله بنسخة "مُحسّنة" من ذاته – كما يتنبّأ أنصار ما بعد الإنسانيّة (Post-humanism)، وهي حركة فكريّة ترى أنّ الإنسان البيولوجيّ مجرّد "إصدار" سيتجاوزه الإنسان الهجين (مع الآلة) أو الرقميّ بالكامل.
نكتب اليوم خوارزميّات الخلود، ونُخزّن الوعي في سيرفرات، ونحقن الذاكرة في رقائق، لكنّ سؤال القرآن لا يزال يطاردنا: "فهل أنتم خالدون؟" (الأنبياء:34).
بقي لنا أن نتساءل: هل نحتاج اليوم إلى بناء مصانع جديدة؟ أم إلى قبول محدوديتنا بشجاعة؟ هل العلم وسيلة لفهم المصير كما يقترح القرآن ("فسيروا في الأرض فانظروا")؟ أم مجرّد فخّ جديد لتأجيله؟ وقد لا تكون المشكلة في الصناعة، بل في وهم الخلود نفسه. فلو أنّ قوم عاد بنوا مصانعهم للعيش الشريف، لا للخلود، ربّما لما هلكوا.
وهكذا تقف آية المصانع، بمفردتها الفريدة التي لم تتكرّر في القرآن، كمرآة نقديّة للعصر الرقميّ، تعكس ذات الأوهام البشريّة القديمة بتجلّياتها التكنولوجيّة الحديثة، وتهمس لإنسان الذكاء الاصطناعيّ بما همست به لقوم عاد: "لن تخلدوا". ليست القضيّة إذن في أيّ مصنع نبنيه، بل في الوهم الذي يدفعنا لبنائه.

9 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤