28 يوليو 2024

رقصة الناقة والروبوت: السعودية على حافة المستقبل الرقمي

تخيلوا معي مشهداً من الرياض عام 2040. في ساحة مركزية تحيط بها ناطحات سحاب شاهقة من الزجاج والصلب، تقف ناقة عربية أصيلة، جلدها الذهبي يتلألأ تحت أشعة الشمس الحارقة. بجانبها، يقف روبوت متطور، هيكله المعدني الأنيق يعكس صور المباني المحيطة. الناقة ترنو بعينيها الواسعتين إلى الروبوت، وكأنها تتساءل: "هل يمكننا حقاً أن نرقص معاً؟"
 
 هذا المشهد الخيالي يجسد التحدي الحقيقي الذي تواجهه المملكة العربية السعودية اليوم: كيف نوازن بين عراقة تراثنا وقوة التكنولوجيا الحديثة؟ كيف نضمن أن تكون خطواتنا نحو المستقبل رشيقة كخطوات الناقة في الصحراء، ودقيقة كحركات الروبوت المبرمجة؟
 
 لنبدأ رحلتنا في فهم هذا التحدي بحكاية قديمة يُقال إنها عن سقراط الصغير. يُحكى أن سقراط كان يكره الاستيقاظ باكراً، مما أزعج والدته التي كانت تطمح أن يصبح مهندساً. فذهبت الأم مع ابنها إلى المعلمة، واتفقت معها على سرد قصة عن فوائد الاستيقاظ المبكر.
 قالت المعلمة: "سأقص عليك قصة جميلة، وأنت تخبرني ماذا استفدت منها، حسناً؟"
 وافق سقراط.
 
 روت المعلمة: "كان هناك عصفوران. استيقظ أحدهما باكراً، فأكل من الحشرات وأطعم صغاره. أما الثاني فاستيقظ متأخراً، فلم يجد ما يأكل. ماذا استفدت من القصة يا سقراط؟"
 أجاب سقراط بذكاء: "إن الحشرات التي تستيقظ مبكراً تأكلها العصافير."
 
 هذه الحكاية البسيطة تضعنا أمام معضلة عصر الذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية. في عالمنا اليوم، من هم العصافير ومن هم الحشرات؟ هل نحن العصافير التي تستيقظ باكراً لتلتهم فرص العصر الرقمي، أم أننا الحشرات التي قد تجد نفسها طعاماً لخوارزميات لا ترحم؟
 
 لنأخذ مثال محمد، مهندس البرمجيات الشاب من الرياض. محمد هو "العصفور" الذي استيقظ باكراً. بعد تخرجه من جامعة الملك سعود، انضم فوراً إلى برنامج تدريب مكثف في أكاديمية طويق، حيث طور تطبيقاً ذكياً يستخدم صور الأقمار الصناعية وبيانات أجهزة الاستشعار لتحسين الري في مزارع القصيم.
 
 واجه محمد تحديات كثيرة: من صعوبة إقناع المزارعين التقليديين بتبني التكنولوجيا الجديدة، إلى تكييف الخوارزميات مع الظروف المناخية القاسية. لكنه نجح في النهاية، وساهم تطبيقه في زيادة إنتاجية المحاصيل بنسبة 30٪ مع توفير 40٪ من المياه. بفضل يقظته المبكرة واستعداده للتعلم، تمكن محمد من "التقاط" فرصة ثمينة في عالم التكنولوجيا.
 في المقابل، لدينا قصة خالد، موظف خدمة العملاء البنكي البالغ من العمر 45 عاماً. خالد يشبه العصفور الثاني في القصة، الذي استيقظ متأخراً. مع إدخال أنظمة الذكاء الاصطناعي في البنك، وجد خالد نفسه متأخراً في سباق التكنولوجيا. بدأ بحضور دورات مسائية في علوم البيانات، لكنه وجد صعوبة في مواكبة التغيرات السريعة. خالد الآن يواجه خطر أن يصبح "الحشرة" التي قد تلتهمها "عصافير" التكنولوجيا.
 
 لكن دعونا نتذكر الدرس الحقيقي من قصة سقراط: ليس المهم فقط أن نستيقظ باكراً، بل أن نكون أذكياء في كيفية استخدام وقتنا. ربما يحتاج خالد إلى إعادة التفكير في استراتيجيته، تماماً كما فكر سقراط خارج الصندوق. بدلاً من محاولة اللحاق بالتكنولوجيا، قد يكون بإمكان خالد استخدام خبرته في خدمة العملاء لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر إنسانية وتعاطفاً.
 
 وهنا يأتي دور المبادرات الحكومية والمجتمعية: كيف يمكننا خلق بيئة تسمح لكل من محمد وخالد بالازدهار؟ كيف نضمن أن يكون مجتمعنا مكاناً يستطيع فيه "العصافير" و"الحشرات" العيش والعمل معاً بتناغم في النظام البيئي الرقمي الجديد؟
 
 ذكرت تقارير متعددة أن الذكاء الاصطناعي من المتوقع أن يساهم بـ 135.2 مليار دولار في الاقتصاد السعودي بحلول عام 2030، مما يمثل 12.4% من الناتج المحلي الإجمالي. لتحقيق هذا الهدف، تركز المملكة على تطوير البنية التحتية التكنولوجية والتعليمية، بما في ذلك إنشاء "واحات الابتكار" ومراكز تدريبية تعزز المهارات الرقمية.
 من أبرز المبادرات الحكومية التي تساهم في هذا التحول، برنامج "Fuel" الذي أطلقته وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات بالتعاون مع أكاديمية الرقمية السعودية ومركز التعلم الإلكتروني الوطني، بهدف تدريب 100,000 مواطن سعودي على المهارات الرقمية المطلوبة في سوق العمل. كذلك، تأتي مبادرة "تويج" التي تهدف إلى تعزيز المهارات الرقمية للشباب السعودي من خلال معسكرات تدريبية في مجالات البرمجة والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.
 تتضمن مبادرات الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) برامج متعددة مثل "أكاديمية سدايا" التي تهدف إلى تدريب الكفاءات الوطنية في مجالات البيانات والذكاء الاصطناعي، ومبادرة "GAIA" التي تعتبر أول برنامج مسرع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للذكاء الاصطناعي التوليدي.

 لنتعلم من تجارب الآخرين: في سنغافورة، ساهم برنامج "SkillsFuture" في إعادة تأهيل آلاف العمال. وفي إستونيا، أدى التحول الرقمي الشامل إلى جعلها من أكثر الاقتصادات ابتكاراً في أوروبا. كيف يمكننا تكييف هذه النماذج مع السياق السعودي الفريد، مع الحفاظ على هويتنا وقيمنا؟
 
 والآن، دعوني أطرح عليكم بعض الأسئلة التي يجب أن نفكر فيها جميعاً:
 1. هل نحن مستعدون حقاً لعصر قد تصبح فيه الناقة والروبوت شريكين متساويين في بناء اقتصادنا؟
 2. كيف نضمن أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة لتمكين الإنسان السعودي، وليس لاستبداله؟
 3. ما هو دورنا الفردي في هذا التحول؟ هل نحن مستعدون للتعلم المستمر والتكيف السريع؟
 4. كيف يمكننا الحفاظ على قيمنا وهويتنا الثقافية في عصر التحول الرقمي السريع؟
 5. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا في حل تحديات المملكة الكبرى، مثل الاستدامة البيئية وتنويع الاقتصاد؟
 
 في النهاية، تذكروا أن الناقة والروبوت في ساحة الرياض المستقبلية ليسا متناقضين، بل متكاملين. قوة الناقة وصبرها، مع دقة الروبوت وسرعته، يمكن أن يشكلا معاً مستقبلاً مشرقاً للمملكة.
 
 السؤال الآن: هل نحن مستعدون لقيادة هذه الرقصة الفريدة بين التراث والتقدم؟ هل سنكون كسقراط، نفكر خارج الصندوق ونجد طرقاً مبتكرة للتكيف مع التغيير؟ أم سنكتفي بمشاهدة الرقصة من بعيد، ونترك الفرصة تفلت من بين أيدينا كحبات الرمال في الصحراء؟
 التحدي أمامنا كبير، لكن إمكانياتنا أكبر. فلنستيقظ باكراً، ولنكن أذكياء في استغلال الفرص، ولنرقص مع التكنولوجيا دون أن نفقد إيقاع تراثنا. فمستقبل المملكة يعتمد على قدرتنا على جعل الناقة والروبوت يرقصان معاً في تناغم تام.

7 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي