في ردهة فندق فاخر الأسبوع الماضي، استوقفني مشهد يلخص القرن الواحد والعشرين كله. مبرمج من وادي السيليكون يحتسي قهوته الأمريكية، وباحثة صينية تتأمل كوب شاي الياسمين، يتناقشان حول سؤال واحد: من سيسيطر على عقول المستقبل؟
دعوني أخبركم لماذا هذا المشهد البسيط يُخفي وراءه أكبر صراع جيوسياسي في تاريخ البشرية.
هناك ثلاث حقائق يجب أن نفهمها عن سباق الذكاء الاصطناعي الحالي:
أولاً، نحن نشهد حرباً باردة رقمية بين عملاقين. في الركن الأمريكي، OpenAI O1 المدعومة بمليارات الدولارات ومخازن البيانات الضخمة وخبرات وادي السيليكون. وفي الركن الصيني، Deep Seek R1 الذي أذهل الجميع بتكلفته الرخيصة للغاية ويتبنى استراتيجية "المصدر المفتوح" وهي أشبه بحصان طروادة رقمي يتسلل إلى كل حاسوب في العالم. إنها حرب النجوم الجديدة لهذا القرن.
ثانياً، إيلون ماسك وسام ألتمان يروجان لفكرة أننا سنصل إلى الذكاء الاصطناعي العام (AGI) بحلول 2026 أو 2030. إنهما يبيعان حلماً للمستثمرين أكثر مما يصفان واقعاً علمياً، ودعونا لا ننسى توقعاتهما السيئة بالماضية والمدفوعة بالرغبة بجلب المستثمرين، مثلا: توقع ايلون ماسك ان عام ٢٠١٨ سيكون العالم كله يستخدم السيارات ذاتية القيادة!
عندما سألت أحد كبار علماء الأعصاب المهتمين بالذكاء الاصطناعي عن هذه التوقعات، ضحك وقال: "نحن لا نفهم حتى كيف يعمل دماغ نملة بشكل كامل، فكيف نزعم أننا سنصنع عقلاً يضاهي البشر خلال سنوات معدودة؟"
ثالثاً، وهذا هو الأهم، نحن نشهد أكبر فقاعة وعود في التاريخ. في التسعينيات، كانت لدينا فقاعة الإنترنت. اليوم، لدينا فقاعة الذكاء الاصطناعي. الفرق أن هذه المرة الرهان ليس على أسهم الشركات فحسب، بل على مستقبل الحضارة البشرية نفسها.
تعالوا نتوقف لحظة ونفكر في المفارقة المضحكة هنا. بينما يتحدث الجميع عن "عقول خارقة" ستغير البشرية، لا تزال روبوتاتنا الحالية تعجز عن أداء أبسط المهام اليومية بشكل موثوق. إنه أشبه بشخص يخطط لبناء ناطحة سحاب بينما لم يتعلم بعد كيف يضع طوبة فوق أخرى بشكل صحيح.
في الجانب الصيني من المعادلة, يتبع Deep Seek استراتيجية مختلفة تماماً. بدلاً من الوعود الضخمة والتصريحات الرنانة، يركزون على بناء نظام بيئي عالمي من المطورين والباحثين. قال لي أحد قادة المشروع: "نحن نزرع بذوراً في كل حديقة، وننتظر المحصول". إنها استراتيجية تذكرني بكيف غزا نظام أندرويد العالم؛ ليس بالقوة، بل بالانتشار الهادئ والمتواصل.
لكن السؤال الأعمق الذي يجب أن نطرحه هو: ما هو الذكاء الاصطناعي العام (AGI) حقاً؟ إنه ليس مجرد برنامج حاسوب متطور. إنه طموح لخلق عقل يضاهي القدرات البشرية في كل المجالات. تخيلوا آلة تستطيع أن تكتب رواية كشكسبير، وتحل معادلات آينشتاين، وتلحن سيمفونية كبيتهوفن؛ كل ذلك في نفس الوقت.
لكن هناك مشكلة صغيرة في هذا الحلم الكبير. كما قال لي عالم الأعصاب في نهاية المؤتمر: "المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في فهمنا للوعي البشري. نحن نحاول تقليد شيئاً لا نفهمه بعد". هذه الجملة تلخص المشهد بأكمله. فحتى الآن لايوجد اختراقات علمية كبيرة تبشر بقرب وصولنا لل AGI .
الحقيقة المرة هي أن الشركات الكبرى - سواء في الصين أو أمريكا - تستخدم وعود AGI كأداة للسيطرة. إنها تخلق حالة من "الهلع الإيجابي" - الخوف من التخلف عن ركب التقدم - لتبرير استثمارات ضخمة وقوانين جديدة تعزز هيمنتها.
في نهاية الأمر، قد نكون نشهد تكرار نمط تاريخي مألوف: عندما تظهر تقنية جديدة، نميل إلى المبالغة في تقدير تأثيرها على المدى القصير، ونقلل من تقدير تأثيرها على المدى الطويل. ربما سيأتي الذكاء الاصطناعي العام AGI يوماً ما، لكن ليس بالضرورة بالطريقة التي يروج لها ماسك وألتمان.
أما الدرس الأهم في كل هذا فهو: التكنولوجيا يجب أن تخدم الإنسانية، وليس العكس. وكما قال لي المبرمج الأمريكي قبل أن أغادر: "المشكلة ليست في متى سنصل إلى AGI، بل في ماذا سنفعل به عندما يصل". وأضافت العالمة الصينية مبتسمة: "وربما الأهم من ذلك: ماذا سيفعل بنا؟"
متى نفهم، أننا لسنا في سباق نحو السيطرة على العقول الإلكترونية بقدر ما نحن في سباق مع أنفسنا؛ سباق للحفاظ على حكمتنا وإنسانيتنا في عصر تتسارع فيه التكنولوجيا بشكل غير مسبوق. وحتى يأتي اليوم الذي نفهم فيه حقاً ما هو الوعي وكيف يعمل العقل البشري، ستظل كل حديث عن AGI مجرد قصص نرويها لأنفسنا عن مستقبل نتخيله، ولكننا لا نفهمه بعد.