في خطوة تعكس ملامح المستقبل، أعلنت الحكومة البريطانية عن وظيفة مثيرة للاهتمام: "مهندس تصميم الأوامر الذكية" في "معهد أمان الذكاء الاصطناعي". براتب يصل إلى 135 ألف جنيه سنوياً، ومدة عقد تتراوح بين 18-24 شهراً، تبدو هذه الوظيفة وكأنها خرجت من صفحات رواية خيال علمي. لكنها حقيقة، وهي تفتح الباب لعالم من الإمكانيات.
لكن ما هو المقصود بمهندس تصميم الأوامر الذكية؟ هل سبق أن طلبت من تشات جي بي تي كتابة مقال عن فوائد القهوة؟ إذا فعلت، فأنت بالفعل مهندس تصميم أوامر ذكية مبتدئ. لكن الفرق بينك وبين المهندس المحترف يشبه الفرق بين من يعرف تشغيل التلفاز ومن يصمم جهاز التلفاز نفسه. كلاكما يتعامل مع التكنولوجيا، لكن أحدكما يشكلها.
لنتخيل سيناريو: أنت تقول "اكتب مقالاً عن القهوة". المهندس المحترف يقول: "قم بإنشاء مقال عن تأثير القهوة على إنتاجية الموظفين في المملكة العربية السعودية، مع التركيز على الدراسات العلمية الحديثة، واستخدام لهجة متفائلة تناسب مجلة اقتصادية، في حدود 800 كلمة". أرأيت الفرق؟ إنه كالفرق بين طلب "ابنِ لي بيتاً" و"ابنِ لي قصراً بطراز معماري يمزج بين الحداثة والتراث السعودي ممثلاً بالعمارة السلمانية".
لكن لماذا لقب "مهندس"؟ ألا يبدو الأمر مبالغاً فيه؟ في الحقيقة، لا. فكما أن المهندس المدني يبني الجسور التي تربط المدن، فإن مهندس تصميم الأوامر الذكية يبني الجسور بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي. إنه يصمم اللغة التي ستشكل مستقبل تفاعلنا مع الآلات. هل هذا أقل أهمية من تصميم ناطحة سحاب؟
دعونا نتوقف لنتأمل كيف أن ظهور التقنيات الثورية الجديدة، التي يخشى البعض أنها ستأخذ وظائفهم، غالباً ما تخلق وظائف جديدة وأكثر راحة. ففي الثورات الصناعية السابقة، مثل الثورة الصناعية الثالثة التي شهدت ظهور الحواسيب والتكنولوجيا الرقمية، قلّت العديد من الوظائف التقليدية، ولكن في المقابل، استحدثت آلاف الوظائف الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل. على سبيل المثال، مع أتمتة المصانع والتقدم في تكنولوجيا المعلومات، ظهرت وظائف جديدة في مجالات تطوير البرمجيات، إدارة نظم المعلومات، والتسويق الرقمي، والتي لم تكن موجودة قبل ذلك.
اليوم، نجد أنفسنا في خضم ثورة صناعية جديدة يقودها الذكاء الاصطناعي. وهنا يأتي دور مهندس تصميم الأوامر الذكية. هذه الوظيفة الجديدة ليست مجرد امتداد للتطور التكنولوجي، بل هي ضرورة في عالم متسارع يحتاج إلى تخصصات دقيقة تساهم في تيسير الحياة وتحسينها.
في المملكة، حيث تتسارع خطى التحول الرقمي ضمن رؤية 2030، تبرز أهمية هذه المهنة الجديدة. تخيل مستشفى في جدة، حيث يقوم الأطباء بمساعدة أنظمة الذكاء الاصطناعي بتحليل آلاف الصور الطبية في دقائق معدودة. أو مركزاً لوجستياً في الدمام، حيث تتواصل الروبوتات مع البشر لتنسيق عمليات الشحن العالمية. من سيصمم قواعد لغة التواصل هذه على أفضل شكل؟ لكي تكون مؤهلاً لذلك، عليك أن تبدأ بتطوير قدراتك في مجالات البرمجة والذكاء الاصطناعي. التعليم الذاتي هو أحد الأدوات الأكثر فعالية في هذا العصر. منصات مثل Coursera وedX توفر دورات متخصصة يمكن أن تفتح لك أبواب هذا المجال. يمكن للشاب السعودي اليوم أن يستفيد من هذه الموارد لتعلم مهارات تصميم الأوامر الذكية والتعمق في مجالات البرمجة وتحليل البيانات.
ولكن لا يمكن الاعتماد فقط على التعليم الذاتي. يجب أن نبدأ في تدريس مادة تصميم الأوامر الذكية في المدارس وجعلها مادة رئيسية في جميع تخصصات الجامعات. ولماذا لا نجعلها تخصصًا فرعياً في علوم الحاسب؟ إذا كانت هذه اللغة هي لغة المستقبل، فينبغي علينا أن نضمن أن كل طالب سعودي يملك القدرة على التفاعل مع هذه التكنولوجيا واستخدامها بفعالية، وأن يكون لدينا متخصصون مؤهلون أكاديمياً في هذا التخصص الواعد.
دعونا نستمر بطرح التساؤلات: هل ستعترف الهيئة السعودية للمهندسين بهذا التخصص الجديد؟ هل سنرى قريباً شاباً سعودياً يقود فريقاً عالمياً لتصميم الأوامر الذكية في أرامكو أو سابك؟ هل يمكن أن يكون شاب سعودي هو من يطور نظام ذكاء اصطناعي يحسن جودة الحياة عالمياً؟ العلم يتقدم، السعودية تبتكر، والمستقبل يتشكل.
في بعض الجامعات السعودية، بدأت بالفعل بعض البرامج المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، ولكن هذه البرامج تحتاج إلى تعزيز لتواكب الطموحات الوطنية في ظل رؤية 2030. ليس هذا فحسب، بل هناك التحدي الأكبر: كيف نعد طلاب المدارس الثانوية في الرياض أو الطائف لعالم قد تكون فيه مهارات تصميم الأوامر الذكية أساسية مثل مهارات اللغة الإنجليزية اليوم؟
الشاب السعودي اليوم يقف أمام فرصة ذهبية لا تُقدّر بثمن. فبينما تستثمر المملكة المليارات في التحول الرقمي، تنشأ حاجة ملحة لخبراء في مجالات جديدة كلياً. التعلم الذاتي قد يكون بوابة الدخول لهذا العالم الجديد. هل أنت مستعد؟
في النهاية، نحن أمام فرصة تاريخية. فكما قادت المملكة العالم في صناعة النفط، بإمكانها الآن أن تكون في طليعة الدول المشكلة لمستقبل الذكاء الاصطناعي.
الآن، تخيل نفسك في مقهى بالرياض عام 2030. تطلب قهوتك العربية من روبوت نادل، وتستعرض هاتفك الذكي لتجد إعلاناً مماثلاً، لكن هذه المرة صادراً عن إحدى الشركات السعودية الكبرى. تبتسم وتتذكر عام 2024، عندما قرأت لأول مرة عن هذه الوظيفة في الإعلان البريطاني. آنذاك، بدت كخيال علمي. اليوم، أصبحت واقعاً يشكل حياتنا.
فكر في الأمر وأنت تحتسي قهوتك التالية. هل ستكون أنت من يصمم الأوامر الذكية التي ستشكل مستقبل المملكة والعالم؟ أم ستكتفي بمشاهدة المستقبل وهو يتشكل من حولك؟
الخيار لك. المستقبل ينتظر. والقهوة تبرد.