في مشهد يثير الأسى بالفيديو المرفق، يقف راهب مسيحي حزيناً أمام سخرية فجة من أقدس طقوس دينه في أولمبياد باريس، ويقول بخسرة لأتباع دينه أنه لايمكن أن يرضى المسلمون بهذه الإدانة لدينهم.
هذا المشهد يدق ناقوس الخطر لكل من يؤمن بقدسية الأديان. فهل نتخيل يوماً أن نرى إمام الحرم المكي يذرف الدموع أمام إساءة مماثلة لمقدساتنا؟ هذا السيناريو المقلق يجب أن يكون حافزاً لنا للتمسك بموقفنا الصلب في الدفاع عن الإسلام وكل ما هو مقدس.
لنتأمل الفرق الشاسع بين موقف المسلمين وموقف المسيحيين. فبينما نرى الراهب بارون يعبر عن حزنه وعجزه، نجد المسلمين يقفون صفاً واحداً في وجه أي إساءة لدينهم. هذا الموقف الحازم ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج قرون من الوعي والتنظيم والتربية القرآنية.
لنستذكر معاً بعض المواقف المشرفة كأمثلة:
1. أزمة الرسوم الدنماركية (2005):
عندما نُشرت الرسوم المسيئة للنبي محمد ﷺ، أطلقت السعودية ومؤسساتها الدينية تصريحات مشددة واستدعت سفيرها في الدنمارك وقادت حشداً إسلامياً ودولياً شاركت فيه العديد من الدول الإسلامية لتبيان موقفنا الصارم من هذه الإساءة البشعة. والمسلمون في شتى أنحاء الأرض قاموا بحملة مقاطعة شاملة للمنتجات الدنماركية. النتيجة؟ خسائر بمليارات الدولارات للشركات الدنماركية، واعتذار رسمي من الحكومة الدنماركية.
٢. حادثة حرق المصحف في السويد (2023):
عندما أقدم متطرف على حرق نسخة من القرآن الكريم في ستوكهولم، كان رد الفعل السعودي حاسماً، حيث استدعت القائم بأعمال السفارة السويدية وسلمته مذكرة احتجاج مشددة، وطلبت عقد اجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي لبحث حوادث تدنيس المصحف في السويد والدنمارك واتخاذ موقف جماعي. وأطلق المسلمون حملات توعية عالمية عن احترام المقدسات.
هذه المواقف وغيرها تظهر قوة الموقف الإسلامي الموحد. لكن السؤال الآن: ماذا لو تخاذلنا كما تخاذل المسيحيون؟
تخيلوا معي سيناريو مقلقاً: إمام الحرم المكي يقف باكياً أمام إساءة صارخة لمكة المكرمة في افتتاح حدث عالمي. هل نريد أن نصل إلى هذه النقطة؟ بالطبع لا. وهذا ما يجعل موقفنا الحازم أكثر أهمية من أي وقت مضى.
والآن، دعونا نتأمل في مشهد يعكس قوة الأمة الإسلامية وتأثيرها العالمي:
تخيلوا خريطة العالم تضيء فيها المساجد والمراكز الإسلامية كنجوم متلألئة، من إندونيسيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن روسيا شمالاً إلى جنوب أفريقيا. في قلب هذه الخريطة، تشع مكة المكرمة بنور ساطع، ترسل أشعتها لتربط كل هذه النقاط المضيئة في شبكة متكاملة من الإيمان والعمل.
هذه الصورة ليست مجرد رسم تخيلي، بل هي تجسيد حي لقوة الأمة الإسلامية وحضورها العالمي. إنها تذكرنا بأن المسلمين، بوحدتهم وتماسكهم، يشكلون قوة عالمية لا يستهان بها. كل نقطة مضيئة على هذه الخريطة تمثل مركزاً للعلم والدعوة والعمل الخيري، يساهم في نشر رسالة الإسلام السمحة ويدافع عن مقدساته.
لكن في خضم هذا النقاش حول حماية المقدسات، علينا أن نتوقف لحظة ونتأمل في مسؤوليتنا الأكبر كمسلمين. فواجبنا لا يقتصر على الدفاع عن مقدساتنا فحسب، بل يمتد ليشمل الدفاع عن كل ما هو مقدس في الديانات الإبراهيمية.
لنتخيل معاً خريطة روحية للعالم، حيث تتألق فيها مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف وكنيسة المهد في بيت لحم كنجوم متلألئة. هذه المواقع المقدسة، رغم اختلاف أتباعها، تشكل معاً نسيجاً روحياً واحداً يربط البشرية بخالقها.
إن دفاعنا عن هذه المقدسات جميعها ليس مجرد واجب ديني وأخلاقي فحسب، بل هو أيضاً استراتيجية حكيمة لحماية الإيمان بشكل عام في عالم تزداد فيه اللادينية المتوحشة المدعومة من اليسار الراديكالي المتنفذ في وسائل الإعلام. فكل إساءة لأي مقدس ديني، سواء كان إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً، هي في حقيقتها خطوة نحو تقويض فكرة القداسة ذاتها.
لنفكر في الأمر من منظور استراتيجي:
1. بناء التحالفات: عندما ندافع عن مقدسات الآخرين، نبني جسوراً من التفاهم والتعاون مع أتباع الديانات الأخرى. هذه التحالفات قد تكون حاسمة في لحظات الأزمات.
2. تعزيز الشرعية الأخلاقية: موقفنا هذا يضعنا في مركز أخلاقي قوي، يصعب على منتقدي الإسلام تجاهله أو الطعن فيه.
3. كسر الصورة النمطية: نقدم للعالم صورة حقيقية عن الإسلام كدين يحترم ويحمي كل المقدسات، مما يساعد في تغيير النظرة السلبية التي يروج لها البعض.
4. الحماية المتبادلة: عندما نقف مع الآخرين في لحظات ضعفهم، نضمن وقوفهم معنا عندما نحتاج إليهم.
5. تأسيس معيار عالمي: نساهم في خلق ثقافة عالمية تحترم المقدسات، مما يشكل حماية طويلة المدى لمقدساتنا أيضاً حتى لا نقول: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".
لنتخيل سيناريو مختلفاً: بدلاً من راهب وحيد يقف حزيناً أمام إساءة لمقدساته، نرى وفداً إسلامياً يقف إلى جانبه، يستنكر الإساءة ويدعو لاحترام كل المقدسات. هذا المشهد لن يحمي الكنيسة فحسب، بل سيبني جسراً من التفاهم والاحترام المتبادل قد يكون درعاً واقياً لديننا ومساجدنا ومقدساتنا في المستقبل.
إن موقفنا كمسلمين في الدفاع عن مقدساتنا لا ينبع فقط من حرصنا على ديننا، بل من فهمنا العميق لرسالة الإسلام الشاملة. فديننا الحنيف يدعونا لاحترام جميع الأنبياء والرسل، ويعلمنا أن الإساءة لأي منهم هي إساءة لجوهر الرسالة السماوية.
ولعل في موقفنا هذا درساً للعالم في التعايش والاحترام المتبادل. فعندما ندافع عن مقدساتنا، فإننا في الحقيقة ندافع عن مبدأ احترام المقدسات بشكل عام. وهذا الموقف النبيل يضعنا في موقع الريادة الأخلاقية، ويمنحنا الفرصة لمد جسور التفاهم مع أتباع الديانات الأخرى.
إن حمايتنا لمقدساتنا وحرصنا على احترام مقدسات الآخرين هو في جوهره تطبيق عملي لقيم الإسلام السمحة. فنحن بهذا نؤسس لثقافة عالمية من الاحترام المتبادل، تحمي الجميع وتصون كرامة كل إنسان.
إن الفرق بين موقفنا وموقف الآخرين يكمن في عدة نقاط:
1. الوحدة: نقف كأمة واحدة، بينما نرى انقساماً في المواقف الأخرى.
2. سرعة الاستجابة: نتحرك فوراً، بينما نرى تباطؤاً في ردود الأفعال الأخرى.
3. تنوع الأساليب: نستخدم كل الوسائل الحضارية، من المظاهرات السلمية في الدول التي تسمح أنظمتها بذلك إلى المقاطعة الشعبية إلى الدبلوماسية.
4. الاستمرارية: لا نكتفي برد فعل آني، بل نستمر في الضغط حتى تحقيق أهدافنا.
لكن هذا لا يعني أننا نستطيع الاسترخاء. بل على العكس، يجب أن نكون أكثر يقظة وأكثر تنظيماً. وهنا يأتي دور المؤسسات الإسلامية الكبرى.
وبناءً على ذلك أدعو رابطة العالم الإسلامي ومنظمة التعاون الإسلامي ومركز إعتدال لإنشاء "المركز العالمي لحماية المقدسات". هذا المركز يجب أن يكون:
1. مرصداً دائماً لرصد أي إساءة للإسلام في أي مكان في العالم.
2. مركزاً للاستجابة السريعة، يحشد الجهود الدبلوماسية والشعبية فوراً.
3. منصة للتواصل مع وسائل الإعلام العالمية لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام.
4. مركزاً لتدريب جيل جديد من الدعاة القادرين على مخاطبة العالم بلغته.
هذا المركز يمكن أن يتجاوز دور رد الفعل إلى دور أكثر إيجابية:
- منصة للحوار: يستضيف حوارات بين الأديان حول مفهوم المقدس وأهمية احترامه.
- مركز أبحاث: يدرس تأثير احترام المقدسات على السلام العالمي والتنمية المستدامة.
- مؤسسة تعليمية: تطور مناهج عالمية لتعليم احترام المقدسات في المدارس.
⁃الوقوف بشدة ضد أي إساءة لادينية لمقدسات الديانات السماوية.
إن قوتنا في وحدتنا، وفي تمسكنا بقيمنا. فلنجعل من موقفنا درساً للعالم في كيفية الدفاع عن المقدسات بحكمة وقوة. ولنتذكر دائماً أن التخاذل ليس خياراً، وأن الصمت ليس حلاً.
دعونا نتذكر أن قوتنا لا تكمن فقط في وحدتنا كمسلمين، بل في قدرتنا على توحيد العالم حول قيم الاحترام المتبادل. فكما قال النبي محمد ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". ولنجعل من احترام المقدسات جسراً نعبر به نحو عالم أكثر رحمة وتفاهماً.
إن هذا النهج الشامل في حماية المقدسات يجسد روح الإسلام الحقيقية. فكما علمنا القرآن الكريم: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، علينا أن نكون في طليعة من يدافع عن حرية العبادة وقدسية الأماكن الدينية لكل الأديان.
ومن البداهة أن نقول، إن دفاعنا عن مقدسات الآخرين هو في جوهره دفاع عن الإيمان ذاته. فعندما نحمي كنيسة اليوم، نبني حصنًا معنويًا يحمي مساجدنا غدًا. وبهذا النهج الشامل والحكيم، نرتقي بالإسلام إلى مكانته الحقيقية كرسالة عالمية للرحمة والتسامح والاحترام المتبادل.
فلنكن نحن من يصنع الأحداث، ولنكن الصوت الذي يدافع عن المقدسات بقوة وحكمة، حتى لا نرى يوماً دموع الحزن على وجوه أئمتنا وعلمائنا ووجوهنا جميعًا. فالإسلام يستحق منا كل جهد وكل تضحية، وعلينا أن نكون على قدر هذه المسؤولية العظيمة.
إن التحديات التي تواجه المقدسات اليوم ليست مجرد اختبار لإيماننا، بل هي فرصة لإظهار حقيقة الإسلام للعالم. فلنجعل من كل تحدٍ منصة لنشر رسالة السلام والتسامح التي جاء بها ديننا الحنيف. ولنتذكر دائماً أن قوتنا الحقيقية لا تكمن في ردود أفعالنا، بل في قدرتنا على التأثير الإيجابي في العالم من حولنا.
وختاماً، لنستحضر قول الله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". فلنكن شهوداً على الحق، مدافعين عن القيم النبيلة، وحماة لكل ما هو مقدس. وبهذا نكون قد أدينا أمانتنا، وحققنا رسالتنا، وتركنا بصمة إيجابية في تاريخ البشرية.