ثمّة مفارقة تصفع الوجدان كلّما قارنّا بين مصر واليابان. ذاك أنّ اليابانيين، في أقلّ من قرن، تحوّلوا من أمّة مهزومة محطّمة إلى قوّة عظمى، بينما المصريون، بعد خمسة آلاف عام من "الحضارة المزعومة"، لا يزالون يبحثون عن فرعون جديد يقودهم إلى أرض الميعاد، كأنّهم عالقون في متاهة فرعونية لا مخرج منها إلاّ بمعجزة.
في أغسطس 1945، كانت هيروشيما وناغازاكي رماداً ذرّياً. الإمبراطور الإله أعلن استسلامه، والساموراي وضعوا سيوفهم. اليابان المحتلّة، المُذلّة، المحكومة من جنرال أمريكي، بدت وكأنّها انتهت إلى الأبد. لكن انظر ماذا حدث: في أقلّ من عقدين، صارت ثاني أكبر اقتصاد في العالم. السرّ؟ اليابانيون لم يبحثوا عن إمبراطور جديد يعيد أمجاد الماضي، بل بنوا دولة حديثة على أنقاض الأوهام القديمة. قانون إصلاح التعليم الياباني (1947) ألغى عبادة الإمبراطور من المناهج وأسّس لعقلية علمية جديدة. ثورة في العقول قبل المصانع.
والحال أنّ اليابانيين فعلوا ما يرفض المصريون حتى التفكير فيه: واجهوا هزيمتهم بصدق قاسٍ. لم يلوموا "المؤامرة الأمريكية" أو "الخيانة الداخلية". قالوا ببساطة مُرّة: هُزمنا لأنّنا كنّا مخطئين. ثمّ بدأوا البناء من الصفر، لا من وهم العظمة المتخيّلة. المصريون، في المقابل، يعيشون في مسرحية أبدية: كلّ فصل جديد هو إعادة تدوير للفصل القديم، والجمهور يصفّق للعرض نفسه منذ خمسة آلاف عام.
بيد أنّ المصريين بعد كلّ هزيمة - وما أكثرها - يهربون إلى الماضي السحيق. "نحن بناة الأهرامات!" يصرخون وهم يقفون في طوابير الخبز المدعوم. "نحن أقدم حضارة!" يردّدون وهم يدفعون الرشوة للموظّف الصغير. خمسة آلاف عام من الفخر بما لم نصنعه، مقابل سبعين عاماً يابانية من صناعة ما يستحقّ الفخ
ألمانيا قصّة أخرى تستحقّ التأمّل. خرجت من الحرب العالمية الثانية مقسّمة، محتلّة، مُدمّرة، ملطّخة بعار الهولوكوست. برلين كانت أنقاضاً، والألمان كانوا منبوذي العالم. اليوم؟ ألمانيا قاطرة أوروبا الاقتصادية وضميرها الأخلاقي. كيف؟ بالاعتراف أوّلاً. الألمان لم ينكروا جرائمهم أو يبرّروها. واجهوا الوحش النازي في داخلهم، حاكموه، ثمّ بنوا دولة ديمقراطية على أنقاضه. القانون الألماني يُجرّم إنكار الهولوكوست ويُعاقب على رفع الرموز النازية، مواجهة قانونية صريحة مع الماضي المظلم.
وإليك ما هو أكثر إيلاماً: الصين، التي كانت في القرن التاسع عشر غارقة في حروب الأفيون والتمزّق والإذلال الاستعماري، التي عانت من المجاعات التي قتلت الملايين، والثورة الثقافية التي دمّرت تراثها، هذه الصين نفسها صارت اليوم ثاني أكبر اقتصاد عالمي، تنافس أمريكا على زعامة العالم. دنغ شياو بينغ قال: "لا يهمّ لون القطّة ما دامت تصطاد الفئران"، براجماتية صادمة بدلاً من الأيديولوجيا المقدّسة. المصريون؟ بعد خمسة آلاف عام ما زالوا يتحدّثون عن الأهرامات وهم واقفون في طابور العيش، كأنّ الزمن عندهم ساعة رملية مكسورة، كلّ حبّاتها عالقة في الماضي!
ولننظر إلى الجوار العربي القريب. الإمارات، التي كانت قبل خمسين عاماً مجرّد صحراء يسكنها صيّادو اللؤلؤ والبدو، صارت اليوم مركزاً عالمياً للتكنولوجيا والمال والسياحة. دبي تبني أطول ناطحات السحاب وأذكى المدن، بينما القاهرة تغرق في مياه الصرف الصحّي. أبوظبي تستضيف اللوفر والسوربون، بينما الإسكندرية تبكي على مكتبتها المحترقة قبل ألفي عام. المصريون بعد خمسة آلاف عام ما زالوا يحفرون في الرمال بحثاً عن مومياء جديدة يتباهون بها، كأنّهم حفّارو قبور محترفون، لا بُناة حضارة!
وهنا لا بدّ من وقفة مع "الفرعون الحديث" - جمال عبد الناصر- الرجل الذي وعد بتحرير فلسطين فخسر سيناء، وعد بالوحدة العربية ففرّق السوريين واليمنيين، وعد بالعدالة الاجتماعية فأسّس دولة المخابرات. لكنّ المفارقة الأكبر أنّ جمهور الناصرية اليوم - بعد أكثر من نصف قرن على رحيله - ما زالوا يستخدمون لغة الماضي لمهاجمة الحاضر، يحلمون بعودة الزعيم الخالد، يرفضون الاعتراف بأنّ ناصر نفسه كان جزءاً من المشكلة لا الحلّ. إنّه ابتلع ثورة يوليو وحوّلها إلى عبادة شخصية، أعاد صناعة لعنة رمسيس بوجه اشتراكي. والناصريون اليوم، في عمقهم، أحد أسباب التردّي: يريدون فرعوناً "تقدّمياً" بدلاً من أن يريدوا مواطناً حرّاً.
المصريون؟ لا يزالون ينكرون حتى أنّهم مهزومون. كلّ ديكتاتور جديد يُستقبل كمخلّص، وكلّ هزيمة تُفسّر كنصر مؤجّل. 1967 لم تكن هزيمة، بل "نكسة". الفقر ليس فشلاً في التنمية، بل "قضاء وقدر". الاستبداد ليس خياراً سياسياً، بل "طبيعة شعب يحتاج حاكماً قوياً". إنّهم كالنعامة التي تدفن رأسها في رمال الصحراء، لكنّ النعامة المصرية تدفن رأسها في رمال التاريخ.
وماذا عن ثورة يناير 2011، تلك التي قالوا إنّها ستغيّر وجه مصر إلى الأبد؟ ثمانية عشر يوماً من الهتاف في الميدان، ثمّ ماذا؟ انتهت بالبحث المحموم عن فرعون جديد ينقذهم من الحرية التي طلبوها! كأنّ الثورة كانت مسرحية عابرة، استراحة قصيرة بين طاغيتين. الشعب الذي صرخ "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" عاد يهتف للمرشد برابعة. أليست هذه ذروة المأساة الهزلية؟ كأنّهم مرضى بمتلازمة ستوكهولم الجماعية: يحبّون جلاّديهم أكثر مما يحبّون أنفسهم.
كوريا الجنوبية، التي كانت في الستينيات أفقر من مصر، صارت من النمور الآسيوية. سنغافورة، جزيرة بلا موارد، صارت مركزاً مالياً عالمياً. ماليزيا، التي استقلّت بعد ثورة 1952 المصرية، تجاوزتهم بسنوات ضوئية. حتى رواندا، التي شهدت إبادة جماعية قبل ثلاثين عاماً، تبني اليوم دولة حديثة بينما مصر تبني... ماذا تبني بالضبط
والحال أنّ الفرق يتجلّى حتى في أبسط التفاصيل اليومية. اليابانيون حوّلوا السوشي إلى فنّ عالمي، صناعة تُدرّ المليارات وتُصدّر الثقافة اليابانية للعالم. المصريون؟ يتباهون بالكشري والطعمية ويقولون إنّها "أكلات عالمية"! يا سادة، الكشري لن يجعلكم تتفوّقون على الصين، والطعمية لن تنافس التكنولوجيا الكورية. أنتم تأكلون بقايا الحضارات - الأرز من آسيا، المكرونة من إيطاليا، العدس من بلاد الشام - وتسمّونها "أكلة وطنية". حتى طعامكم مُستعار!
بيد أنّ الأنكى من كلّ هذا ما نراه في الثقافة الشعبية المصرية. بينما اليابانيون يصنعون روبوتات وسيارات وتكنولوجيا تغزو العالم، المصريون منشغلون بصناعة الأفلام والمسلسلات عن بطولات وهمية وانتصارات متخيّلة. دراما تُخدّر الوعي بدلاً من أن توقظه، تهرب من الواقع بدلاً من أن تواجهه. عشرات الأفلام والمسلسلات الرغبوية عن البطولة والشهامة والرجولة وذكاء الجيش والمخابرات، وفي الواقع؟ هروب جماعي من أيّ مواجهة حقيقية مع الذات أو مع السلطة. اليابانيون يصدّرون التكنولوجيا، والمصريون يصدّرون... الوهم.
والسياحة؟ آه من السياحة المصرية! إنّها تجارة الموت بامتياز. السيّاح يأتون ليشاهدوا جثث الفراعنة المحنّطة، يتصوّرون مع المومياوات، يدخلون المقابر ويخرجون. بينما اليابان تصدّر ثقافة حيّة نابضة: الأنمي، المانجا، الألعاب الإلكترونية، التكنولوجيا المستقبلية. هم يبيعون المستقبل، وأنتم تبيعون الماضي. هم يصدّرون الحياة، وأنتم تصدّرون الموت. مصر صارت متحفاً كبيراً مفتوحاً، والمصريون حرّاس مقابر بالوراثة.
ولا يمكن تجاهل دور البيروقراطية المصرية - ذلك الوحش الورقي الذي يلتهم الأحلام ويُفرز الإحباط- مصر دولة الأوراق والأختام والتوقيعات، لا دولة الأفكار والإنجازات. موظّف يحيلك إلى موظّف، ودائرة تحيلك إلى دائرة، في متاهة كافكاوية لا نهاية لها. البيروقراطية المصرية ليست مجرّد عقبة إدارية، بل آلة ضخمة لإعادة إنتاج العبودية كلّ يوم. المواطن يقف ذليلاً أمام الموظّف، يتوسّل لإنجاز حقّ من حقوقه، يدفع الرشوة ليحصل على ورقة. هذا الجهاز العقيم يُدرّب المصريين يومياً على الخضوع، يُعلّمهم أنّ الدولة ليست في خدمتهم بل هم في خدمتها، أنّهم ليسوا مواطنين بل متسوّلين على أبواب المكاتب الحكومية.
الأمر أعمق من مجرّد النجاح الاقتصادي. تلك الشعوب غيّرت عقليّتها الجمعية. اليابانيون حوّلوا طاعة الإمبراطور إلى انضباط في العمل. الألمان حوّلوا النظام الفاشي إلى نظام ديمقراطي. الكوريون حوّلوا الفقر إلى حافز للتفوّق. الإماراتيون حوّلوا الصحراء إلى واحة للحداثة. أمّا المصريون فحوّلوا كلّ فرصة للتغيير إلى نسخة محدّثة من الماضي: فرعون جديد، هرم جديد، عبودية بتكنولوجيا حديثة. إنّهم كالذي يصطاد السمك بشبكة مثقوبة، ثمّ يلوم البحر على فقره.
التبرير الجاهز دائماً: "ظروفنا مختلفة"، "تاريخنا أطول"، "التحدّيات أكبر". كأنّ القنبلة الذرّية التي سقطت على هيروشيما كانت أقلّ تدميراً من خمسة آلاف عام من الحضارة! كأنّ تقسيم ألمانيا كان أهون من وحدة مصر! كأنّ صحراء الإمارات كانت أكثر خصوبة من وادي النيل!
الحقيقة المُرّة أنّ المصريين يحبّون قيودهم أكثر مما يحبّون حريّتهم. يفضّلون الأمان الوهمي للعبودية على المخاطرة الحقيقية للحرية. خمسة آلاف عام من البحث عن الفرعون المخلّص، من رمسيس إلى مرسي، ولم يخطر لهم أن يبحثوا عن الخلاص في أنفسهم؛ كشجرة تنمو جذورها وأغصانها إلى الأسفل فقط، شجرة مقلوبة في تربة التاريخ.
في النهاية، الفرق بين مصر واليابان ليس في الموارد أو الجغرافيا أو حتى التاريخ. الفرق في السؤال الذي يطرحه كلّ شعب على نفسه. اليابانيون سألوا: "كيف نبني المستقبل؟" المصريون يسألون: "من يعيد لنا الماضي؟" وبين السؤالين، خمسة آلاف عام من الفرق.
ربّما حان الوقت للتوقّف عن التغنّي بالأهرامات والبدء في بناء المصانع. التوقف عن انتظار الفرعون المخلّص والبدء في خلق المواطن الحرّ. التوقف عن أكل الكشري المُعولم والبدء في صناعة منتج حقيقي. التوقف عن بيع المومياوات والبدء في بيع الأفكار. التوقف عن خدمة البيروقراطية والبد في بناء دولة تخدم الناس.
لكن مَن أنا لأحلم للمصريين؟ في بلد ما زال يعيش على أمجاد موتاه، وينتج دراما عن بطولات لم تحدث، ويأكل خليطاً من بقايا الحضارات ويسمّيه "تراثاً"، ويبيع جثث أجداده للسيّاح، ويُذلّ مواطنيه في دهاليز البيروقراطية، في بلد كهذا، الأحلام نفسها تبدو كالخيانة العظمى.
المصريون، للأسف، شعب اختار أن يكون متحفاً للتاريخ بدلاً من أن يكون مصنعاً للمستقبل. هذه الحقيقة كما تبدو جلية في المرآة.