ذاك أنّ اللسان المصريّ – الذي نطق يوماً بحكمة إخناتون وفصاحة طه حسين – صار اليوم مجرّد سوط جنسيّ يجلد الأمهات في كلّ مناسبة. ليست هذه ظاهرة لغويّة عابرة، بل هي فضيحة حضاريّة مكتملة الأركان.
والحال أنّ المصريّ لا يحتاج إلى استفزاز حقيقيّ كي يُطلق عقيرته: مجرّد نظرة، زحمة مرور، أو حتّى صمتك، كفيل بأن يُقال لك "كس أمك". هكذا ببساطة، كما لو أنّ هذه العبارة شهادة ميلاد للكلام، لا اغتصاباً لفظيّاً للكرامة.
لكنْ مهلاً: لماذا الأم؟ ولماذا العضو الجنسيّ؟ ولماذا هذا الانحياز الغريزيّ لاغتصاب معنويّ على الهواء مباشرة؟ أسئلة تطرق باب المجتمع، فلا يردّ عليها سوى المزيد من الشتائم.
أمّا المفارقة المُرّة فتتجلّى حين نعقد المقارنة المؤلمة: ففي دول الخليج، رغم انفتاحها التقنيّ وتحوّلها إلى عواصم عصريّة، لا تزال الشتيمة الجنسيّة محرّمة عرفاً، ومحرجة فطرةً، ولا يُقذف العرض بالأمهات في كلّ خلاف تافه. فالسعوديّ إذا غضب قال: "الله يهديك"، والمصريّ إذا غضب قال: "هنيك أمك". أيّ هوّة سحيقة تفصل بين من يحوّل الغضب إلى دعاء، ومن يحوّله إلى اغتصاب لغويّ!
والأغرب أنّ أيّ اختلاف في الرأي مع المصريّين – سواء كان سياسيّاً أو رياضيّاً أو ثقافيّاً – غالباً ما ينتهي بحمّام من السباب الجنسيّ. فإن قلت إنّ الزمالك أفضل من الأهلي، أو أنّ السيسي ليس نسخة من ناصر، أو حتّى إن انتقدت فيلماً مصريّاً شهيراً، فإنّ الردّ سيكون في العادة عبوة ناسفة من الألفاظ تغتال أمّك وتنتهك عرضك. كما لو أنّ النقد يستدعي الاغتصاب اللفظيّ، وكأنّ حريّة الرأي تُدفن في مقبرة "كس أمك".
ولم يتنبّه الخليجيّون لهذه الظاهرة في السابق، لكنّ الهجرة المصريّة الجماعيّة إلى تويتر، واستضافة فعاليات البطولات المصرية الكروية، كشفت عن قاموس هجوميّ صادم. فمع كلّ مباراة كرويّة أو خلاف سياسيّ، تنفجر الساحة الافتراضيّة المشتركة بسيل عارم من التعبيرات الجنسيّة المقذعة. ثقافة لم يعتدها الخليجيّ الذي قد يشتم ويغضب، لكنّه يبقى في العادة خارج تلك الدائرة من اللغة المهتوكة.
ولعلّ من المفيد، قبل أن نمضي، أن نستكشف جذور الشتم في تربة التاريخ المصريّ. فمصطلح "المعرّص" بكافة تفريعاته اللغوية -والذي يتردّد يوميّاً على ألسنة المصريّين – ليس كلمة طائشة سقطت من السماء، بل يحمل خلفيّة تاريخيّة ثقيلة. ففي العصر العثمانيّ، كانت "العرصة" تشير إلى الأحياء التي تُنظَّم فيها الدعارة قانونيّاً، وكان على كلّ حيّ منها "شيخ عرصة"، أي مشرف رسميّ على الدعارة، له سلطة ونفوذ.
ولاحقاً، ومع الاحتلال البريطانيّ، تحوّل هذا الدور إلى ما يشبه "الفتوّة" المحلّي المسؤول عن حماية الجنود البريطانيّين وتنظيم الدعارة لأغراض سياسيّة وأمنيّة.
وهكذا أصبحت كلمة "معرّص" تشير إلى الرجل الذي يبيع العرض مقابل الحماية أو المال. والمدهش حقّاً: هذا المصطلح الذي كان وظيفة رسميّة، أصبح اليوم أداة يوميّة في التواصل الشعبيّ.
لو مضينا أبعد في التحليل النفسيّ، فسنجد أنّ فرويد كان سيصف ظاهرة الشتم المصريّة بعقدة أوديب جماعيّة. فالمصريّ، المقموع جنسيّاً، الممنوع من التعبير، لا يجد إلاّ جسد أمّ خصمه ليقذفه لفظيّاً، كأنّها لوحة ساديّة لعدوان على الوطن الأم. وكأنّ الشتيمة جماع وهميّ يمارسه اللسان المهزوم على عرض الآخر، حين يعجز عن تأكيد ذاته بوسيلة حضاريّة.
أمّا الإعلام المصريّ، فقد تحوّل إلى مصنع للشتيمة المؤسّسيّة بامتياز. من روايات الأسواني إلى الأغاني الشعبية، تمّ تطبيع الشتيمة الجنسيّة، بل وتسويقها كرمز للواقعيّة أو الجرأة. لم يعد يُستهجن أن يُقال مثلا: "يا عرص" على لسان البطل، بل يُضحك ويُصفّق له. كأنّنا أمام دولة يتشكّل دستورها من مادّة وحيدة: يجوز اغتيال العرض لفظيّاً، في أيّ وقت، لأيّ سبب.
والنخب الثقافيّة، بدورها، لعبت دور المهرّج الرسميّ في هذا السيرك اللغويّ، صامتة حيناً، ومبرّرة أحياناً، بل وتكتب عن "عبقريّة الشتيمة" بوصفها أدباً شعبيّاً! لقد باتت التفاهة مادّة بحثيّة، والوضاعة تراثاً، في عيون نخبة فقدت معايير النقد، فلم تعد تكتب، بل تشتم بنبرة نيتشويّة خادعة.
وإلى جانب الشتيمة الجنسيّة، ثمّة شتيمة مذهبيّة تكشف العمق السقيميّ للظاهرة. فـ "يلعن دينك" ليست مجرّد غضب عشوائيّ، بل تعبير تاريخيّ عن مجتمع تعدّديّ دينيّاً، فقدَ قدرته على التمييز بين الخصومة والوجود.
يُرجّح أنّ ظهور هذه الشتيمة ارتبط بشكل أكبر بسقوط الدولة الفاطميّة الشيعيّة وعودة العقيدة السنّية، حيث تحوّل الدين من معتقد إلى هويّة صداميّة. فالمصريّ حين يسبّ الدين، لا يسبّ معتقد خصمه فحسب، بل يضرب عمق هويّته ووجوده. وكأنّنا بمجتمع تحوّلت فيه الطائفيّة من صراع سياسيّ إلى منهج لغويّ.
في العقود الماضية، كان يُنظر إلى المصريّ كواجهة للثقافة العربيّة، يتحدّث بفصاحة، ويغنّي بعذوبة، ويكتب بحكمة. لكنّ اليوم، حين يظهر على شاشات السوشيال ميديا أو في مسلسلاته، تسبقه لغة سوقيّة وجارحة، تشتم قبل أن تتكلّم. بينما يصنع الخليجيّون محتوى نظيفاً وراقيًا حتّى حين يتحدّثون عن قضايا جادّة خلافية، يصنع المصريّ محتوى يحتفي بالبذاءة، بل ويفخر بها. وأصبح من الشائع أن يقول بعض العرب: "مصر؟ هؤلاء يشتمون أمّك قبل أن يسألوك عن اسمك". وهو قول مؤلم، لكنّه يعكس ما نراه لا ما نتخيّله.
وأدهى من هذا كلّه، أنّ ألفاظ السباب المصريّة، خاصّة ذات الطابع الجنسيّ، أصبحت جزءاً من اللغة اليوميّة في بعض الأوساط الاجتماعيّة، حتّى أنّ بعضها فقد دلالته الأصليّة، وأصبح يُستخدم كتعبير عن الدهشة أو الإعجاب. أي أنّنا لا نعيش فقط في زمن الشتيمة، بل في زمن تبلّد الحياء، حين تُستخدم أكثر العبارات فحشاً كمرادفٍ للضحك أو الترحيب. مجتمع يرحّب بك بأن يغتال أمّك لغويّاً، ثمّ يتوقّع منك الابتسام والشكر
حين تسقط اللغة، لا تسقط المفردات فقط، بل تسقط الذاكرة الحضاريّة، ويسقط الحياء الأخلاقيّ، وتسقط الحدود بين التعبير والتهجّم، بين الغضب والتوحّش، بين الرجولة والبهيميّة. إنّ المجتمع الذي لا يرى بأساً في اغتصاب لفظيّ للأمّهات في الشارع، هو مجتمع يعاني من انهيار عميق في الأخلاق، وفي الذوق، وفي تعريف الإنسانيّة ذاتها.
الدكتور أحمد عبد الله، أستاذ علم النفس، يقول: "هناك يقين لدى أغلب الناس بأنّ الشتيمة هي الوسيلة الأسرع والأكثر فاعليّة للتعبير عن الغضب". لكنْ ماذا عن المجتمع الذي يعيش على المسكّنات اللفظيّة؟ يهدأ بشتم أمّهات الناس، ولا يهدأ إن انهار الجنيه!
أمّا الأديب أحمد خالد توفيق، فيتساءل: "لماذا اختار ذلك الرجل تلك السبّة تحديداً من بين قاموس الشتائم المصريّ العامر بمفرداته؟" الجواب واضح كالشمس الحارقة: لأنّها لم تعد شتيمة، بل هويّة صوتيّة. كأنّ المصريّ أخذ باسبورته القديم – الذي تحمله الفصاحة والحكمة – ومزّقه، وأبدله بجواز سفر جديد اسمه "كس أمك".
ولنتخيّل لحظة أنّ إخناتون استيقظ اليوم، وطه حسين عاد ليسمع. أيّ صدمة ستنتظرهما حين يكتشفان أنّ لغة الحضارة التي بنوها وأثروها تحوّلت إلى مقبرة للقيم، وأنّ التهتّك الذي كان يستوجب العقاب بات يُفرَض باسم "الواقعيّة"؟
لا يليق بالمصري المسلم والمسيحي ،على حد سواء، أن يكون صوته اليوميّ: "كس أمك". لكنْ يبدو أنّ انحداراً ما أعمق من اللغة قد وقع.
ولا غرابة أنّ الذين ينشرون فقه الشتيمة في الطرقات، هم أنفسهم من يعظون الناس عن حرمة الزنا والعلاقات الجنسيّة خارج الزواج؛ كما لو أنّ اللسان الذي اغتصب ألف أمّ في النهار يصلح لإلقاء خطبة عن الطهارة في المساء. وتلك مفارقة أخلاقيّة مرعبة، ففيما تُحبس الأجساد في قفص التحريم، تُطلق الألسنة في مضمار الجنس كلّ صباح.
من أراد أن يعرف إلى أين تتّجه الأمم، فليستمع إلى مفرداتها في ساعة غضب. والأمّة التي يغتصب بعضها أمّهات بعضها الآخر – ولو لغويّاً – هي أمّة لن تقف في وجه محتلّ ولن تبني تنمية ولن تصنع حضارة. لأنّ من لا يحترم مَحرم خصمه، لا يمكن أن يحترم قيمة أو فكرة أو مبدأ.
والمدهش حقّاً: أنهم ينفقون ملايين الدولارات لترميم الآثار الفرعونيّة، فيما يتجاهلون انهياراً أخلاقيّاً يذبح لغتهم كلّ يوم؛ فكأنّ القيمة الحضاريّة في الحجر لا في البشر، وفي المتاحف لا في الشوارع.
الصدمة ليست في اللفظ، بل في أنهم توقفوا عن الشعور بالصدمة. كأنّنا أمام خريطة وطنيّة يُكتب عليها: "هنا مصر، أرض الحضارة... وكس أمك".