قصة 720 كيلومترًا كادت تُنتزع من سيناء ولماذا يحرّض الإخوان اليوم على فتح رفح بالقوة؟
ثمّة في مشاريع التصفية ما يفضح أصحابها قبل أن يفضح ضحاياها. واليوم، على أعتاب سيناء، حيث تحتشد أحلام إسرائيل القديمة وخيانات الإخوان الجديدة في طابور واحد، تنكشف اللعبة الكبرى عارية: مرسي الذي عرض على محمود عباس عام 2013 "شقفة من سيناء" لتوطين الفلسطينيين! قائلاً بلهجته الركيكة "وفيها إيه.. يعيشوا في سيناء.. ممكن ناخدهم يعيشوا في شبرا كمان"، هذا الهالك من نصبته الجماعة التي تصرخ اليوم من منافيها التركية متّهمة السيسي بالخيانة لرفضه... ما عرضوه هم بالمجّان!
والحال أنّ فضيحة مرسي، التي كشفها عباس في المجلس الوطني الفلسطيني عام 2018، ليست مجرّد زلّة لسان أو سوء تقدير؛ إنّها الكشف الأكبر عن حقيقة "المقاومة" الإخوانية: جماعة تتاجر بالقضايا نهاراً وتبيعها ليلاً، كبائع يصرخ بالوطنية في السوق ويساوم عليها في الخفاء. فالرجل الذي قبلت حماس بتهريبه من السجن عبر الأنفاق عام 2011، مقتحمةً السجون المصرية وقاتلةً الجنود المصريين، كان مستعدّاً لتحقيق حلم "جيورا آيلاند" الإسرائيلي طواعيةً: 720 كيلومتراً مربعاً من سيناء، من رفح إلى العريش، لتصبح وطناً بديلاً للفلسطينيين.
ذاك أنّ مشروع آيلاند، الذي وضعه رئيس التخطيط في الجيش الإسرائيلي عام 2000، كان يحتاج إلى خائن عربي ينفّذه. رفضه مبارك حين عرضه عليه دنيس روس مقابل 12 مليار دولار. ثم رفضه السيسي وقال: "الشعب المصري سيخرج بالملايين". واصطفت السعودية والكثير من الدول العربية بصراحة وحزم مساندة للزعيم المصري البطل. لكنّ لا ننسى؛ مرسي، ذلك البائع المفلس في سوق السياسة، عرضه مجّاناً! بل وعاتب عباس على رفضه: "وإنت مالك؟
بيد أنّ الأكثر إثارة للغثيان ماحصل لاحقًا. ففي يونيو 2025، ومع اشتعال الحرب المباشرة بين إيران وإسرائيل، تلك الحرب التي بدأت بـ"طوفان الأقصى" الأحمق وانتهت بتصفية كلّ قيادات "المقاومة" من نصر الله في مخبئه إلى هنية في طهران، ومن سقوط الأسد وهروبه من دمشق إلى عجز حزب الله عن إطلاق رصاصة واحدة، والآن يُحاول تنظيم الإخوان دفع مصر إلى المحرقة. من استديوهاتهم المكيّفة في إسطنبول، حيث يجلس معتز مطر ومحمد ناصر ووجدي غنيم وطارق السويدان وحمزة زوبع وغيرهم كطيور في أقفاص ذهبية، يُطلقون حملات التحريض عبر قنوات "الشعوب" و"مصر النهاردة" ومئات البودكاستات والبوستات والتغريدات، مطالبين المصريين بـ"الزحف على معبر رفح" وفتحه بالقوّة.
يلوح أنّ 90% من خطاب هؤلاء المرتزقة موجّه ضد مصر، و10% فقط عن غزة التي يتباكون عليها. فعلي يوسف من ماليزيا يصرخ: "النظام المصري يغلق المعابر لحصار الفلسطينيين"، ومعتز مطر من إسطنبول يُحرّض: "غزة لن تُخذل إلا إذا تخاذلتم أنتم"، والمتحدث الرسمي للجماعة يزعم أنّ "انقلاب 2013 كان لتصفية القضية الفلسطينية". أيّ منطق أعوج هذا؟ يتّهمون مصر بالخيانة وهم الذين عرضوا سيناء على طبق من ذهب!
أغلب الظنّ أنّ "طوفان الأقصى" كان في حقيقته "طوفان الغباء الاستراتيجي". عملية لم تستشر فيها حماس أحداً: لا مصر التي تحرس البوّابة، ولا السعودية التي كانت على وشك إنجاز اتفاق تاريخي لحلّ الدولتين مع واشنطن، ولا حتى السلطة الفلسطينية. جاءت الأوامر من طهران في أسوأ توقيت ممكن، فأجهضت مسار السلام الذي كان في طريقه للنجاح، وأعطت إسرائيل ذريعة ذهبية لتنفيذ ما تحلم به منذ عقود: تفريغ غزة من سكّانها البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة.
راهناً، ومع إنشاء إسرائيل رسمياً في مارس 2025 "هيئة للهجرة الطوعية" من غزة، وإعلان ترامب عن خطته لتحويل القطاع إلى "ريفيرا الشرق الأوسط" بعد تهجير سكّانه "مؤقتاً" إلى سيناء والأردن - وهو ما أثنى عليه نتنياهو واصفاً إيّاه بـ"التفكير خارج الصندوق" - تتكشّف أبعاد المؤامرة. حتى إدارة بايدن التي وصفت التهجير بأنّه "غير مقبول" (non-starter) لم تستطع كبح جماح الأحلام الإسرائيلية التي وجدت في ترامب حليفاً جديداً.
والأرقام تفضح حجم الكارثة المحتملة: مصر التي تستضيف بالفعل 9 ملايين لاجئ بتكلفة 10 مليارات دولار سنوياً، كما صرّح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، ستحتاج إلى 2-3 مليارات دولار إضافية سنوياً لاستضافة مليوني فلسطيني. هذا غير عشرات المليارات المطلوبة لبناء بنية تحتية في سيناء؛ طرق ومستشفيات ومدارس ومخيّمات. عبء اقتصادي ثقيل على دولة تُكافح أصلاً للرجوع لمسارها الصحيح.
لكنّ الخطر الاقتصادي يتضاءل أمام الخطر الأمني. فتحويل سيناء إلى مخيّم لاجئين عملاق يعني زرع قنبلة موقوتة على الحدود الشرقية: تسلّل عناصر مسلّحة من داعش والجهاديين، احتكاكات مع القبائل السيناوية، احتمال جرّ مصر إلى صدام عسكري مع إسرائيل إذا استُخدمت الأراضي المصرية لإطلاق هجمات. سيناء التي خرجت لتوّها من حرب دامية ضد الإرهاب لن تتحمّل عبء ملايين المهجّرين وما يحملونه من مآسٍ ومخاطر.
هذا بينما كان مرسي، حين حكم عاماً واحداً كارثياً، يُحوّل الأنفاق التي كانت في عهد مبارك ممرّات للإغاثة إلى طرق سريعة لتهريب السلاح والإرهابيين. الأنفاق التي استخدمتها حماس لاقتحام السجون المصرية وتحرير قادة الإخوان - ومرسي معهم- وقتل الجنود المصريين. الأنفاق التي كانت ستُمهّد لتحويل سيناء إلى وطن بديل لو بقي الإخوان في السلطة يوماً إضافياً.
أمّا السعودية والأردن، اللتان وقفتا مع مصر كالجبال، فأدركتا أنّ معركة التهجير ليست معركة أرض فحسب؛ إنّها معركة على بقاء الدول ذاتها. فالتهجير إلى سيناء اليوم يعني التهجير إلى الأردن غداً، ثمّ تفكيك ما تبقّى من الأوطان العربية قطعة قطعة. لهذا قالت الرياض وعمّان، كما قالت القاهرة: لا للتهجير، لا للتوطين، لا لتصفية القضية على حساب السيادة العربية.
وفي قلب هذا المشهد التراجيدي، يقف السيسي ليقول بوضوح الجرّاح الماهر: "من يُريد ملاذاً آمناً للفلسطينيين، فليُقمه في صحراء النقب". جملة واحدة فضحت المؤامرة كلّها. لماذا سيناء المصرية وليس النقب الإسرائيلية؟ لماذا يُطالَب الضحية بدفع ثمن جريمة الجلاّد؟ لأنّ الهدف ليس الإنسانية كما يدّعون، بل التطهير العرقي الناعم؛ تصفية القضية بالتقسيط.
والحقيقة المُرّة أنّ التهجير إلى سيناء يعني تحويلها إلى غزة ثانية تحت السيادة المصرية، وإنهاء حقّ العودة وموت القضية الفلسطينية نهائياً، وتحقيق الحلم التوراتي بأرض إسرائيل الكبرى الخالية من العرب، وخلق نموذج للتهجير القادم من الضفة إلى الأردن. هذا ما فهمه السيسي ورفضه، وهذا ما أعلن أنّه "قضية وجود" لا مجرّد قرار سياسي. وهذا ما لم يفهمه مرسي، أو فهمه وخان!
مصر التي أدخلت إلى غزة أكثر من 130 ألف طن من المواد الغذائية، و11 ألف طن من الأدوية، واستقبلت 3700 جريح للعلاج، و582 رحلة إغاثة دولية عبر مطار العريش، والتي أعادت فتح معبر رفح في 19 يناير 2025 فدخلت 330 شاحنة في يوم واحد، مصر التي قدّمت 87% من إجمالي المساعدات، يتّهمها الإخوان بالتقصير! سبعة آلاف شاحنة عبرت رفح المصري محمّلة بالحياة لا بالموت، بالدواء لا بالسلاح، بالأمل لا باليأس. لكنّ الإخوان لا يرون إلا "الخيانة"، لأنّ مصر رفضت أن تكون مقبرة للقضية الفلسطينية.
وبينما تتواصل المعارك من طهران إلى تل أبيب، ويسقط القادة الإيرانيون واحداً بعد الآخر تحت الضربات الإسرائيلية على منشآتهم النووية، ويعجز "محور المقاومة" عن حماية نفسه فضلاً عن تحرير فلسطين، يبقى السؤال الذي يخشى الجميع طرحه: من المستفيد من كلّ هذا الدمار؟ إسرائيل بالتأكيد، فهي تُحقّق أحلامها واحداً بعد الآخر. إيران؟ خسرت كلّ أوراقها وانكشف ضعفها. الإخوان؟ ما زالوا يحلمون بالعودة للعرش على أنقاض الأوطان.
أمّا الخاسر الأكبر، الخاسر دائماً وأبداً، فهو ذلك الطفل الفلسطيني الذي يموت تحت الأنقاض بينما يتاجر الجميع بدمه: إسرائيل تقتله، وإيران تستثمر موته، والإخوان يريدون بيع قبره. في زمن الخيانات المتعدّدة، حين يبيع البائعون ويشتري المشترون، تبقى سيناء شامخة؛ مقبرة لأحلام الصهاينة، وليست سوقاً لتجارة الإخوان، ولا ساحة لمغامرات الفرس.
وإلى أن يفهم الجميع، بعقل أو بعصا، أنّ الأوطان لا تُؤجَّر كشقق مفروشة، والسيادة لا تُباع بالمزاد كسيارة مستعملة، وأنّ من باع وطنه بالأمس - كما فعلت جماعة مرسي ذلك المهرّج التعيس - لا يحقّ له البكاء على أوطان الآخرين اليوم بدموع التماسيح، ستبقى غزة تحترق في جحيمها الأرضي، والأطفال يموتون كالفراشات في النار، و"المقاومون" يتاجرون بالشعارات كباعة متجوّلين، والخونة يبحثون عن وطن جديد يبيعونه في سوق النخاسة. متى نتعلّم، ولو متأخّرين، أنّ حماية ما تبقّى من أرض عربية لم تُبَع بعد أولى ألف مرّة من مغامرات طائشة تنتهي بمزيد من الأرض المفقودة والدماء المسفوكة؟