15 يونيو 2025

قافلة الضمائر المؤجّرة: حين يصير النضال مهزلة

 
ألف وسبعمائة “مناضل” يبحثون عن غزة عبر القاهرة.. والإخوان يتاجرون بالدماء
ألف وسبعمائة “مناضل” من أبطال المقاهي الافتراضية انطلقوا من تونس إلى غزة. عبر القاهرة طبعًا، لأن الجغرافيا — كما الضمائر — باتت قابلة للتأجير. ثمّة في هذا المشهد التهريجي ما يذكّرنا بمن يريد الانتحار فيقفز من الطابق الأرضي: الحركة صاخبة، النتيجة معدومة، والضجيج لا ينقطع.
نبيل الشنوفي، هذا الفارس الذي امتطى صهوة الوهم، يؤكد أن الهدف “رمزي”. والحال أن الرمزية في قواميس العرب المعاصرين صارت مرادفًا للعبث، أو ستارًا للفراغ. فالقافلة التي تسلك أطول الطرق لتصل، تشبه ثورياً يناضل ضد الرأسمالية من داخل مقهى ستاربكس. التناقض فاضح، لكنّ الوقاحة أفضح.
لكن اللعبة أخطر من مجرد استعراض سياحي. خلف هذا الكرنفال المتنقل، تقف أصابع جماعة الإخوان المسلمين، تلك التي حوّلت النفاق إلى مبدأ، والكذب إلى وسيلة. من فشلوا في الحكم والمعارضة، يحاولون اليوم إعادة تدوير رصيدهم المحترق باستغلال القضية الفلسطينية كورقة ضغط. كذبابٍ على الجراح: لا يشفون، بل يلوّثون.
الهدف واضح كالشمس في ظهيرة الصيف: إحراج مصر. يريدون وضعها بين مطرقة “التواطؤ مع الاحتلال” وسندان “خيانة القضية”. معادلة ابتذلوها حتى صارت كأنها من بقايا منشورات الثلاثينات. إن سمحت مصر للقافلة بالعبور، حققوا هدفهم بالعبث بأمن مصر القومي. وإن منعتها، صرخوا: “الخونة يشاركون في الحصار”. لعبة يظنون أن الخاسر فيها معروف، والفائز هو الإعلام الإخواني الذي يُتقن البكاء على الخراب الذي صنعه.
والحال أن اختيار معبر رفح لم يكن عشوائيًا. هم لا يريدون العبور، بل الاصطدام. لأن البحر لا يمرّ عبر القاهرة، ولأن القاهرة هي الهدف. البحر لا يمنحهم صورة إعلامية تليق بقناة الجزيرة، ولا مشهداً يمكن تضخيمه إلى ملحمة. هم لا يريدون الوصول إلى غزة، بل يريدون تصوير مشهد صدام مع الأمن المصري، ليعيدوه على شاشاتهم ألف مرة.
الماكينة الإعلامية اشتغلت بكامل قذارتها: “الجزيرة” تغطي القافلة كأنها فتح القدس، قنوات الإخوان تلهث خلف كل تفصيل، وجيوش إلكترونية تغرّد كما لو كانت القافلة ستنقذ غزة من ما جنته حماقات حماس غدًا. لكن لا نجاة هناك، فقط كاميرات ومكر. الشرف — في قاموس الإخوان — ضدٌّ يجب محاربته لا التمسك به.
والسؤال البسيط الذي يتجنبه الجميع: ماذا قدمت حكومة “النهضة” لغزة حين حكمت تونس؟ لا صواريخ، لا غذاء، لا دعم حقيقي. فقط خطب منمّقة وبيانات تافهة. وماذا عن أردوغان؟ ذاك الذي يصيح من على المنابر ضد الاحتلال ويوقّع تحت الطاولة عقود الغاز والتطبيع؟ وماذا عن "الشقيقة" الراعي الرسمي للقافلة والكفيل المزدوج للإخوان وكل ماهو ضد مصر على حدّ سواء.
مصر — التي تُتّهم بالتقصير — استضافت أكثر من مليوني فلسطيني، لا في مخيمات، بل كمواطنين. وخاضت أربع حروب دفاعًا عن فلسطين، وقدّمت عشرات الآلاف من الشهداء. بينما كان منظّرو القافلة يعدّون أموال التمويل في فنادق اسطنبول و "دولة شقيقة".
بلغة الأرقام: كم كلّفت هذه القافلة؟ وكم صرف على الطيران والإقامة والتأمين والوجبات الفاخرة لمرتزقة النضال ممن وصل جوًا للقاهرة؟ أليست تكلفة هذه الفانتازيا كافية لتغطية مستشفى في غزة؟ لكنهم لا يريدون إنقاذها. يريدون إعادة بثّ خطابهم المنتهي الصلاحية على أمل رجوعهم لكرسي الحكم بعد أن ألقاهم شعب مصر إلى مستنقعات التاريخ.
هذه القافلة ليست دعمًا، بل عملية إنعاش إعلامي لجماعة سياسية ماتت. الإخوان الذين لفظهم الشارع العربي، يحاولون التشبث بقضية فلسطين كقشة أخيرة. لا حبًا بها، بل ليستعيدوا عبرها شهيقًا واحدًا إضافيًا من مشهد سياسي لفظهم للأبد.
الساخر في المشهد أن من يخططون لتحرير فلسطين عاجزون عن تحرير أنفسهم من أوهامهم. يُنظّرون من خلف نوافذ فنادق خمسة نجوم، ويثرثرون عن المقاومة بينما يعقدون صفقاتهم خلف الستار. يمارسون الثورة من صالات الانتظار، ويستهلكون وجع الشعوب كما يُستهلك مشروب فاخر.
لكن الشعوب تعلّمت. من اكتوى بنار الإخوان في مصر وتونس وليبيا، لم يعد يصدّق دموعهم المصطنعة. لم تعد “القضية” تنطلي على أحد حين تتحول إلى ورقة ضغط في يد من خانها مرارًا.
أما مصر، فقد تعبت من أن تكون دائمًا المعبر والمستهدف والضحية. وتعب العرب من هذه المسرحيات التي تتكرر بلا نهاية، وتعبت فلسطين من أن تُستعمل ورقة في ملفات لا تخصها.
والسؤال الأخير ليس عن غزة، بل عن الكرامة: إلى متى نسمح لمن تاجر بكل شيء أن يتاجر بالقضية الأخيرة التي ما زالت -أو ربما- توحّدنا؟ إلى متى سيُشترى دم الشهداء بشيك ممول؟
لقد آن للستار أن يُسدل، لا على قافلتهم وحدها، بل على زمن كامل من التمثيل الرديء باسم النضال.

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤