في عالم يتسابق فيه العلماء لتحقيق إنجازات مذهلة في مجال التكنولوجيا الحيوية، يقف الدكتور سام بارنيا على حافة اكتشاف قد يغير فهمنا للحياة والموت إلى الأبد. بارنيا، الأستاذ المساعد في مركز لانغون الطبي بجامعة نيويورك، يطرح فرضية جريئة: الموت ليس نهاية حتمية، بل "عملية إصابة" قابلة للعلاج.
لنتوقف للحظة ونتأمل عمق هذه الفكرة. في مقالنا السابق "CRISPR: هل نحن على أعتاب عصر السوبرمان الجيني؟"، ناقشنا كيف يمكن للتعديل الجيني أن يغير مستقبل البشرية. اليوم، نقف أمام ثورة أخرى، لا تقل أهمية، في مجال الطب.
فكيف يمكن للموت أن يكون "عملية إصابة"؟ وما هي التقنيات التي يستخدمها بارنيا في أبحاثه؟
في جوهر أبحاث بارنيا تكمن تقنيتان رئيسيتان: الأكسجة الغشائية خارج الجسم (ECMO) والتبريد العلاجي. ECMO هي تقنية متطورة تعمل كرئة وقلب اصطناعيين، حيث تقوم بضخ الدم وأكسجته خارج الجسم ثم إعادته. أما التبريد العلاجي، فهو عملية خفض درجة حرارة الجسم بشكل مدروس لإبطاء العمليات الأيضية وحماية الخلايا من التلف.
هاتان التقنيتان، عندما تُستخدمان معًا وبشكل صحيح، يمكنهما توفير "نافذة زمنية" أطول لإنعاش المرضى الذين تعرضوا لتوقف القلب. وهنا يكمن جوهر اكتشاف بارنيا: الدماغ يمكن أن يظل قابلاً للاستعادة لساعات بعد توقف القلب.
لنتأمل هذا الاكتشاف للحظة. في مقالنا السابق "بين السوبر إنسان والماتركس: رحلة Neuralink في سماء التطور البشري"، ناقشنا كيف يمكن للتكنولوجيا أن تعزز قدرات الدماغ البشري. ما يقترحه بارنيا هو أبعد من ذلك: إنه يقترح أن الدماغ البشري قد يكون أكثر مرونة وقدرة على البقاء مما كنا نعتقد سابقًا.
لنأخذ مثالاً واقعيًا يوضح قوة هذا الاكتشاف. في عام 2018، تعرض رجل فرنسي يبلغ من العمر 45 عامًا لسكتة قلبية. بعد 18 ساعة - وهو وقت أطول بكثير مما كان يُعتقد سابقًا أنه ممكن - تم إنعاشه بنجاح. كيف حدث هذا؟ يعتقد الأطباء أن انخفاض درجة حرارة جسمه بشكل طبيعي ساعد في الحفاظ على خلايا دماغه.
هذه الحالة، وغيرها الكثير، تدعم نظرية بارنيا بأن الموت بالجلطة عملية يمكن عكسها، وليس حدثًا نهائيًا. في دراسة أجراها على أكثر من 2000 حالة توقف قلب، تمكن بارنيا وفريقه من إعادة إحياء 16% من المرضى. الأكثر إثارة للدهشة هو أن نصف هؤلاء الناجين تذكروا تجارب وعي أثناء فترة "موتهم".
هذا الاكتشاف يثير أسئلة عميقة حول طبيعة الوعي. في مقالنا "إيلون ماسك 2.0: عندما يصبح الاستنساخ والخلود الرقمي واقعاً"، ناقشنا فكرة نقل الوعي البشري إلى أجهزة رقمية. لكن ماذا لو كان الوعي قادرًا على الاستمرار حتى بعد توقف الدماغ عن العمل بشكل ظاهري؟
يقول مجموعة من علماء الأعصاب: "أبحاث الدكتور بارنيا تفتح آفاقًا جديدة لفهم الموت والوعي. إذا نجحت هذه التقنيات، فقد نكون على أعتاب ثورة في مجال الطب."
لكن مع كل اكتشاف عظيم، تأتي تحديات أخلاقية وعملية كبيرة. مثلًا، أستاذ للأخلاقيات البيولوجيا، يحذر: "هذه النتائج تفتح الباب أمام إمكانيات جديدة لجمع الأعضاء البشرية لزرعها، ولكنها تثير أيضًا تساؤلات حول كيفية تعريف الموت طبيًا."
فإذا كان الموت "عملية" وليس "لحظة"، فمتى نقرر أن الشخص قد مات حقًا؟ ومن يملك الحق في اتخاذ هذا القرار؟ هل سنرى يومًا محاكم تنظر في قضايا "الحق في الموت" أو "الحق في محاولة إضافية للحياة"؟
التطبيقات العملية لأبحاث بارنيا مثيرة للإعجاب. تخيل عالمًا حيث السكتة القلبية لا تعني حكمًا بالإعدام، بل فرصة للعودة. عالمًا حيث يمكن لأطباء الطوارئ منح المرضى ساعات إضافية من "وقت الإنقاذ". هذا قد يعني إنقاذ عشرات الآلاف من الأرواح سنويًا.
لكن التحديات هائلة أيضًا. كيف سنعيد تعريف الموت قانونيًا وأخلاقيًا؟ كيف سنتعامل مع الآثار النفسية والاجتماعية لـ"العائدين من الموت"؟ وماذا عن التكاليف؟ هل سيصبح "تأخير الموت" امتيازًا للأغنياء فقط؟
في سياق متصل، يشير الدكتور جوشوا شودوش، أستاذ أبحاث الشيخوخة في جامعة نيويورك، إلى ظاهرة أخرى مثيرة للاهتمام: "الوضوح المتناقض" لدى مرضى الخرف المتقدم. يقول: "فهم هذه الظاهرة يمكن أن يغير تمامًا نظرتنا للوعي ويفتح آفاقًا جديدة لتحسين حياة ملايين المرضى.
هذا الاكتشاف، جنبًا إلى جنب مع أبحاث بارنيا، يشير إلى أن الوعي البشري قد يكون أكثر مرونة وتعقيدًا مما كنا نعتقد. وهذا يعيدنا إلى النقاشات التي أثرناها في مقالاتنا السابقة حول طبيعة الوعي والهوية في عصر الذكاء الاصطناعي والتعديل الجيني.
في النهاية، أبحاث بارنيا تضعنا أمام مرآة وجودنا. إنها تدفعنا لإعادة التفكير ليس فقط في كيفية موتنا، بل في معنى حياتنا أيضًا.
وأنت، عزيزي القارئ، لو منحت ساعات إضافية بين الحياة والموت، ماذا ستختار أن تفعل بها؟ وكيف سيغير هذا الاحتمال نظرتك للحياة الآن؟
ربما، في نهاية المطاف، الثورة الحقيقية ليست في إطالة الحياة، بل في تعميق فهمنا لها. وفي تلك اللحظات الغامضة بين النبضة الأخيرة والصمت الأبدي، قد نجد أخيرًا إجابات لأعمق أسئلتنا عن الوجود.
كما رأينا في مقالاتنا السابقة عن CRISPR وNeuralink، نحن نعيش في عصر حيث الحدود بين الحياة والموت، بين الإنسان والآلة، تصبح أكثر ضبابية. أبحاث بارنيا هي جزء آخر من هذه الثورة البيولوجية الكبرى التي تعيد تشكيل فهمنا لما يعنيه أن تكون إنسانًا.
وبينما نتقدم في هذا المجال، يجب أن نتذكر دائمًا أن التكنولوجيا هي مجرد أداة. القيمة الحقيقية تكمن في كيفية استخدامنا لها لتحسين حياة البشر وتعميق فهمنا للوجود. فهل نحن مستعدون لهذه المسؤولية الهائلة؟ ولنتذكر دائما ماورد بالقرآن الكريم: : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}،
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} ، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }، وغير ذلك من آيات كريمة توضح أن الموت الحقيقة لا مفر منها، ولكن ماذا عن إطالة العمر لمئات السنوات؟ قد يكون!