تخيلوا معي هذا المشهد: في مختبر صغير بجامعة الملك سعود في الرياض، تجلس الدكتورة هند، عالمة الوراثة السعودية الشابة، أمام مجهر إلكتروني متطور. على الشاشة أمامها، تظهر تقنية CRISPR، أداة لا يتعدى حجمها جزءًا من المليون من حبة الرمل، لكنها تحمل في طياتها قوة إعادة تشكيل مصير البشرية.
من هذا المختبر الصغير في الرياض إلى أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، تثير هذه التقنية الدقيقة عاصفة من الجدل حول مستقبل الجنس البشري. إنها أشبه بمصباح علاء الدين في عالم الجينات، قوة هائلة محبوسة في أداة صغيرة، تنتظر من يطلق العفريت من قمقمه.
تقول الدكتورة جينيفر دودنا، الحائزة على جائزة نوبل وإحدى مبتكرات تقنية CRISPR: "هذه التقنية تجعلنا نعيد التفكير في كيفية توجيه التطور البشري. في الماضي، كان الانتقاء الطبيعي هو الموجه. أما اليوم، فنحن من يمسك بدفة سفينة التطور".
لنتوقف لحظة ونتأمل في عمق هذه الكلمات. هل أصبحنا على وشك أن نكون مهندسي الحياة، قادرين على إعادة تشكيلها كما نشاء؟ هل سنشهد قريبًا ولادة جيل من البشر الخارقين وراثيًا، يتفوقون على أينشتاين ذكاءً وعلى محمد علي كلاي قوة؟
تخيلوا معي سوقًا في جدة عام 2040. وسط أكشاك الخضار والفواكه، يبرز كشك يعرض "تحسينات جينية" كأنها فيتامينات. "هل تريدون ذكاءً أعلى لأطفالكم؟ قوة جسدية استثنائية؟ عمرًا أطول؟ كل هذا متاح - لمن يملك المال- هل هذا هو المستقبل الذي نطمح إليه؟ أم أننا نفتح صندوق باندورا الجيني؟
هذه الصورة المستقبلية تطرح أسئلة عميقة عن العدالة والمساواة. في عالم يمكن فيه "تصميم" الأطفال جينيًا، هل سنخلق مجتمعًا من طبقتين: المحسنين وراثيًا وغير المحسنين؟ هل سيصبح التحسين الجيني حكرًا على الأثرياء، مما يعمق الهوة الاجتماعية والاقتصادية إلى درجة لا رجعة فيها؟
تخيلوا مشهدًا في مدرسة المستقبل: في الصف الأول، يجلس أطفال "عاديون" إلى جانب أطفال "مطورين جينيًا". الأطفال المحسنون يتفوقون في كل المجالات: الرياضيات، العلوم، الرياضة. كيف سيشعر الأطفال "العاديون"؟ هل سيشعرون بالنقص؟ بالظلم؟ هل سنخلق جيلًا كاملًا من المهمشين وراثيًا، يشعرون أنهم ولدوا في الجانب الخطأ من المعادلة الجينية؟
لكن دعونا ننظر إلى الوجه الآخر للعملة الجينية. تخيلوا عالمًا خاليًا من الأمراض الوراثية. تصوروا مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض خاليًا من مرضى السرطان. تخيلوا جيلًا من كبار السن في الثمانينيات يتمتعون بنشاط العشرينيات. تصوروا عالمًا نستطيع فيه استغلال كامل طاقاتنا العقلية والجسدية. ألا يستحق هذا المستقبل السعي لتحقيقه؟
يقول الدكتور إيريك لاندر، عالم الوراثة المرموق: "التعديل الجيني يفتح آفاقًا لا حدود لها، لكن بدون إطار أخلاقي واضح، قد نجد أنفسنا نسير على حافة هاوية أخلاقية."
هذه الكلمات تذكرنا بأن التقدم العلمي يجب أن يواكبه تقدم أخلاقي. فكما وضعنا ضوابط أخلاقية للتعامل مع الثورات التقنية السابقة - من الكهرباء إلى الإنترنت - علينا الآن صياغة دستور أخلاقي جديد للتعامل مع ثورة الجينات. وإلا، فقد نجد أنفسنا في عالم يشبه فيلم "غاتاكا"، حيث تُحدد قيمة الإنسان بجودة جيناته.
في الصين، أعلن عالم عن ولادة أول طفلتين معدلتين جينيًا لمقاومة فيروس الإيدز. وفي الولايات المتحدة، تجري تجارب لاستخدام تقنية CRISPR لعلاج السرطان. هذه التطورات تضع العالم أمام تحديات جديدة في كيفية استخدام هذه التقنية بشكل أخلاقي ومسؤول. هل نحن مستعدون لهذه المسؤولية الهائلة؟
تقول إليزابيث بلاكبيرن، الحائزة على جائزة نوبل في الطب: "عندما نتحدث عن تعديل الجينات، نتحدث عن تغيير ليس فقط الأفراد ولكن المجتمع بأسره. هذا يتطلب مستوى جديدًا من التفكير الأخلاقي، أشبه بإعادة كتابة العقد الاجتماعي بين البشر والتكنولوجيا."
في المملكة العربية السعودية، تضخ الحكومة استثمارات كبيرة في أبحاث الجينوم كجزء من رؤية 2030. هذا يضع المملكة في موقع فريد لقيادة الحوار العالمي حول أخلاقيات علم الأحياء في عصر الهندسة الوراثية. كيف يمكن للمملكة الموازنة بين الطموحات العلمية والقيم الإسلامية في هذا المجال الحساس؟ هل يمكن للشريعة الإسلامية أن تقدم إطارًا أخلاقيًا للتعامل مع هذه التقنيات الجديدة؟
المستقبل ليس حتميًا. إنه خيار. خيارنا نحن. فهل سنختار أن نكون عبيد تطوير الجينات، أم حراسها الحكماء؟ هل سنسعى وراء الكمال الجيني، أم نحتفي بتنوعنا البيولوجي؟
في كل مرة نستخدم فيها CRISPR، نحن لا نغير فقط الجينات، نحن نعيد تعريف ما يعنيه أن تكون إنسانًا. فهل نحن مستعدون لهذه المسؤولية الهائلة؟
الإجابة على هذا السؤال قد تحدد ليس فقط مستقبلنا، بل مستقبل الجنس البشري بأكمله. فما الذي ستختارون؟
6 دقيقة قراءة
الكاتب
اينشتاين السعودي
@SaudiEinestine
مشاركة المقالة عبر
Leaving SaudiEinsteinYour about to visit the following urlInvalid URL