29 يونيو 2025

حين يصل الذكاء الاصطناعي الذي يفوق الإنسان قبل أن يصحو التعليم: وزارتان تتنازعان والمستقبل يُمحى

 جيلٌ مهدّد بالبطالة الجماعية، وأكاديميات معزولة، ووزارتان لا تتحدّثان… هل نبني الجسر الآن، أم ننتظر السقوط معًا؟
‏هناك في توقّعات خبراء الذكاء الاصطناعيّ حول العالم ما يدعو إلى الذعر: AGI - ذلك الكيان الذي سيفوق الإنسان في كلّ المجالات المعرفية - قادمٌ خلال خمس إلى عشر سنوات، والبعض الأكثر تفاؤلاً (أو تشاؤماً، حسب وجهة النظر) يتوقّعه خلال ثلاث إلى خمس سنواتٍ فقط. لكنّ منظومتنا التعليميّة، تلك الديناصورة العجوز، ما زالت تغطّ في سُباتٍ عميق.
‏ذاك أنّ AGI - الذكاء الاصطناعي العامّ - ليس مجرّد تحسينٍ تقني عابر؛ إنّه ذكاء يكتب أفضل من أمهر الكتاب، يبرمج أسرع من أذكى المبرمجين، يحلّل أدق من أمهر المحللين، ويشخص الأمراض أفضل من كبار الأطباء. والسؤال المرعب الذي يفرض نفسه: ماذا سيحدث لملايين الوظائف؟ للمحاسبين؟ للمحامين؟ للصحفيين؟ للمهندسين؟ حتّى للأطباء أنفسهم؟
‏والحال أنّ الجواب المُفزع واضحٌ كالشمس: من لا يملك مهارات التعامل مع الذكاء الاصطناعيّ وتوجيهه والعمل معه سيصبح عديم الفائدة، زائداً عن الحاجة، مُلقىً في مزبلة التاريخ. والأسوأ؟ مناهجنا التعليميّة لا تُعِدّ الطلاّب حتّى للذكاء الاصطناعي الحالي، فما بالك بـ AGI القادم كقطارٍ مُسرع!
‏بيد أنّ المفارقة الأكثر سخريةً تكمن في التناقض الصارخ بين واقعنا المُزري وواقع العالم المتقدّم. فبينما تُدرّس جامعات MIT وستانفورد مقرّرات "التعايش مع الذكاء الاصطناعي" و"أخلاقيّات AGI" و"البرمجة التعاونيّة مع الآلات الذكيّة"، جامعاتنا ما زالت تناقش هل البرمجة ضروريّة لطلاّب الطبّ أم لا! في وادي السيليكون يُعلّمون الآلات كيف تفكّر، وفي وادينا نُعلّم الطلاّب كيف يحفظون. أجدادنا اخترعوا الجبر والخوارزميات، ونحن نناقش هل البرمجة ضرورية. يا للسخرية المُرّة!
‏طالب الهندسة عندنا يتخرج دون أن يكتب سطر كود واحد بالذكاء الاصطناعي؛ طالب الطب لا يعرف كيف يستخدم أدوات التشخيص المدعومة بالذكاء الاصطناعي؛ طالب الأعمال لا يفهم كيف ستغيّر الأتمتة الذكيّة عالم الشركات. جامعاتنا كالعجوز التي تُصرّ على استخدام المصباح الزيتي في عصر الكهرباء، مُعتقدةً أنّ رائحة الكيروسين تُضفي أصالةً على المكان.
‏وإذ يُصر خريج الطب عندنا على حفظ أسماء العظام باللاتينية، سيأتي ChatGPT-7 ليشخص المرض قبل أن ينطق مريضنا بالأعراض. فأيّ مفارقة مُرة هذه؟ وأيّ مصير ينتظر محامينا الذين يتباهون بحفظ المواد القانونية، فيما الآلة تكتب العقود بلا أخطاء إملائية - ناهيك عن الأخطاء القانونية- والمحاسب الذي يُمضي سنواتٍ في تعلّم الجداول، ستحسب الآلة في ثانية ما يحتاج هو أسبوعاً لإنجازه؟
‏تأخرنا، نعم تأخرنا. تأخرنا في عصر الكمبيوتر فقلنا "موضة وستزول". تأخّرنا في ثورة الإنترنت فبرّرنا "نحن أمّة اقرأ لا أمّة انقر". تأخّرنا في الهواتف الذكية فتعزّينا بأنّ "التواصل الحقيقي وجهاً لوجه". والآن، ونحن على أعتاب عصر الذكاء الاصطناعي، نُصرّ على التأخّر مجدداً. بيد أنّ الفارق هذه المرّة أنّ التأخّر لن يعني التخلّف فحسب؛ سيعني المحو التامّ من خارطة الوجود الحضاري.
‏وإذ نغوص في تفاصيل المأساة، نجد أنّ القيادة الرشيدة، بوعيها العميق لحجم التحدّي، وجّهت بتطبيق أنظمة التخصّص المزدوج (Double Major) والتخصّص الثانويّ (Minor) والتخصّص المزدوج المتكامل (Dual Major). توجيهاتٌ واضحة وصريحة لمواكبة أفضل الممارسات العالميّة. لكن ماذا حدث على أرض الواقع؟
‏الحقيقة المُخجلة: "بعض" الجامعات - وأؤكّد على "بعض" - وضعت برامج Minor على استحياء، كمن يرمي فُتات الخبز لجائع. برامج محدودة، في تخصّصات تقليديّة، دون أيّ ربطٍ حقيقيّ بسوق العمل أو التقنيّات الناشئة. والحقيقة الأكثر إحراجاً: عددٌ أقلّ من الجامعات - يُعدّ على أصابع اليد الواحدة - أطلق برامج Double Major، لكن في تخصّصات "آمنة" و"مريحة" للأقسام الأكاديميّة، وليس بناءً على دراسات سوق العمل أو احتياجات المستقبل. أمّا الحقيقة الأكثر كارثيّة: نظام Dual Major - الذي يسمح بدراسة تخصّصين متكاملين من كليّتين مختلفتين - تطبيقه معدوم! تجارب خجولة لا تُذكر. كأنّ التوجيهات ذهبت أدراج الرياح.
‏لعلّ الكارثة المزدوجة تتجلّى في وجود وزارتين مسؤولتين عن مستقبل أجيالنا: وزارة التعليم ووزارة الموارد البشريّة والتنمية الاجتماعيّة. ورغم وجود لجان تنسيق ومجالس مشتركة على الورق، لكنّ المفارقة المؤلمة أنّ التطبيق الفعليّ يوحي بأنّهما تعملان في عالمين متوازيين. وزارة التعليم تُخرّج آلاف الطلاّب سنويّاً لسوق عملٍ لا تعرف احتياجاته الحقيقيّة، بينما وزارة الموارد البشريّة تضع متطلّبات وظيفيّة لخرّيجين لم تشارك بفعاليّة في تأهيلهم!
 والأرقام تكشف حجم المأساة: وزارة الموارد البشريّة تُنفق مليارات على برامج "إعادة التأهيل" و"التدريب التحويليّ" - 8.7 مليار ريال في 2023 وحده! - وهو اعترافٌ ضمنيّ صارخ بأنّ 16 عاماً من التعليم لم تؤهّل الخرّيجين لسوق العمل الحديث! أليس من الأجدى إصلاح الأساس بدلاً من ترقيع ما لا يُمكن ترقيعه؟
‏وفي لعبة اللوم المفضّلة لمؤسّساتنا، نجد وزارة التعليم تقول: "نحن نُخرّج طلاّباً متعلّمين حسب المناهج المعتمدة. إذا كان سوق العمل لا يستوعبهم، فهذه مشكلة وزارة الموارد البشريّة." بينما وزارة الموارد البشريّة تردّ: "نحن نوفّر برامج تدريب وتأهيل. إذا كان الخرّيجون يحتاجون إعادة تأهيل كاملة، فالمشكلة في التعليم الأساسيّ." والشركات تصرخ: "نحتاج كفاءات لا نجدها!" والخرّيجون يبكون: "درسنا سنوات ولا نجد عملاً!" والوطن ينزف: مليارات تُهدر، طاقات تُضيع، فرص تفوت، والعالم يتقدّم بينما نحن غارقون في جدلٍ بيزنطيّ عقيم.
‏أغلب الظنّ أنّ الأكاديميّات المتخصّصة - أكاديميّة طويق، أكاديميّة وزارة الاتصالات، أكاديميّة هيئة الأمن السيبرانيّ - تُمثّل المفارقة الأكبر. فهي تُخرّج تقنيين على مستوى عالميّ، وتدرّب على أحدث التقنيّات، وتؤهّل خبراء في مجالات حيويّة. لكنّ هذه الأكاديميّات تعمل بمعزلٍ تامّ عن الجامعات! طالب الجامعة لا يستطيع الاستفادة منها رسميّاً. شهاداتها غير معترف بها أكاديميّاً. خبراتها لا تُدمج في المناهج الجامعيّة.
‏تخيّل لو أنّ كلّ طالب جامعيّ يُمكنه الحصول على تدريب معتمد من هذه الأكاديميّات كجزء من برنامجه الدراسيّ. تخيّل لو أنّ خرّيج الهندسة يحمل شهادة جامعيّة + شهادة أكاديميّة طويق + شهادة هيئة الأمن السيبرانيّ. هذا الخرّيج سيكون مطلوباً عالميّاً، وليس محليّاً فقط.
‏والحال أنّ السيناريو الكارثيّ المُرتقب يتلخّص في أرقامٍ مُرعبة: عندما يظهر AGI، لن نتحدّث عن بطالة عاديّة. سنواجه "بطالة تقنيّة جماعيّة" ملايين الوظائف تختفي فجأة، وملايين العاملين يصبحون بلا قيمة في سوق العمل الجديد. AGI سيستطيع أداء 80% من الوظائف الحاليّة، والـ 20% المتبقية تتطلّب مهارات متقدّمة جدّاً. خرّيجونا غير مؤهّلين حتّى للوظائف الحاليّة. النتيجة: انهيار اجتماعيّ واقتصاديّ محتّم.
‏بينما الدول الأخرى تستعدّ من الآن: كوريا الجنوبية بوكالتها الوطنيّة للتحوّل الرقميّ، فنلندا بتعليم 160 ألف مواطن أساسيّات الذكاء الاصطناعيّ، سنغافورة بخطّتها لتخريج 15 ألف خبير؛ نحن، ما زلنا نناقش هل نطبّق Minor أم لا! الوقت ليس في صالحنا، وكلّ يومٍ يمرّ دون تحرّك يعني: آلاف الخرّيجين غير المؤهّلين، مليارات الريالات المهدرة، فرص ضائعة لن تعود، جيل كامل محكوم عليه بالتخلّف.
‏لكنّ الحلول، وإن كانت صعبة، ليست مستحيلة.
‏أوّلاً: إعلان حالة الطوارئ التعليميّة والوظيفية، والاعتراف بأنّنا نواجه أزمة وجوديّة. تشكيل مجلس أعلى للتعليم والتوظيف برئاسة مباشرة من القيادة، فتجاربنا أثبتت أن أي مشروع لايكون بقيادة ولي العهد فمصيره غالبًا الفشل أو التأجيل. وهذه قصة أخرى ليس هنا مجالها.
‏ ثانياً: تطبيق فوريّ وإلزاميّ لأنظمة التخصّص المتعدّد - كلّ جامعة يجب أن تطبّق Double Major خلال عام واحد، Dual Major إلزاميّ بين الكليّات التقنيّة والأخرى، Minor في الذكاء الاصطناعيّ إجباريّ لكلّ التخصّصات.
‏ثالثاً: دعم الأكاديميّات المتخصّصة فوراً؛ و اعتماد شهاداتها كساعات جامعيّة، تدريب إلزاميّ لكلّ طالب في إحدى هذه الأكاديميّات.
‏رابعاً: إعادة هيكلة جذريّة للمناهج بالشراكة مع جامعات عالمية كبرى،  50% تطبيقات عمليّة، 30% مشاريع حقيقيّة مع شركات، 20% فقط نظريّات أساسيّة، والذكاء الاصطناعيّ في كل مقرر.
‏خامساً: جسر حقيقيّ بين التعليم والتوظيف، وزارة واحدة أو مجلس أعلى يجمع الطرفين، خطط مشتركة بناءً على دراسات السوق، ضمان وظيفي لمن يُكمل البرامج المطلوبة.
‏وإذ يدق الوقت ناقوس الخطر، فكلّ يومٍ يمرّ دون تحرّك حقيقيّ هو يومٌ مسروق من مستقبل أبنائنا. AGI قادمٌ شئنا أم أبينا. العالم يتغيّر بسرعة مُذهلة. والسؤال ليس "هل سنواكب؟" بل "هل سننجو؟" الخيارات واضحة: إما ثورة تعليميّة حقيقية الآن، أو مواجهة انهيار اجتماعيّ واقتصاديّ قريب جدّاً.
‏التاريخ لن يرحم. الأجيال القادمة ستسأل: أين كنتم عندما كان بإمكانكم التغيير؟ لماذا تركتمونا نواجه عصر الآلات الذكيّة بأدوات العصر الحجري؟
‏في عالمٍ يتحرّك بسرعة الضوء، التأخّر ليس مجرد تخلف -إنّه انتحار- والأمم التي تفشل في إعداد أبنائها للمستقبل، محكومٌ عليها بأن تصبح مجرّد ذكرى في كتب التاريخ. هكذا نبقى، مُعلّقين بين الأمل والخوف، بين الإمكان والعجز، ننتظر معجزةً قد لا تأتي أبداً. أم أنّ العقل العربي، ذاك الذي أضاء العالم يوماً ما، محكومٌ عليه بالسفر على ظهر جملٍ في عصر الصواريخ الفضائية؟  

10 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤