19 يونيو 2025

شاهد-MBC الخفّاش الرقمي: منصّة تمتصّ دماء المشتركين وتطير بأحلامهم

 ثمّة في ليلة الهلال ومدريد ما يكشف عُري منصّة تبيع الوهم وتشتري الذهب، تَعِد بالصورة وتُهدي العتمة، تحتكر البث وتُفلس المشاهدة. بينما سالم الدوسري يُراوغ مدافعي الملكي، تتشنّج الصورة كمصروع في نوبته الأخيرة؛ وإذ تصدح الحناجر بالهتاف المجيد، ينكسر الصوت كعود ثقاب رطب؛ وفي اللحظة المصيرية – تلك بالذات – حين يتصدّى بونو لركلة الجزاء، تغرق الشاشات في سواد كثيف، سواد يُذكّر بكفن يلفّ جثمان الفرحة المغدورة.
والحال أنّ هذه المنصّة صارت رمزاً لكل ما هو معطوب في إعلامنا: تدّعي الانتماء فيما قرارها يُطبخ في الخارج، وتزعم السعودية فيما خوادمها تتسكّع في الغربة، تَعِد بالجودة فتقدّم 25 إطاراً هزيلاً في الثانية بينما العالم يسبح في بحر الـ60 إطاراً.
لئن احتكرت شركة الهند الشرقية التوابل فأذاقت الشعوب طعم الفقر، فإنّ منصّتنا الرقمية تحتكر الفرح فتُطعمنا التقطّع المُرّ.
تلك النافذة الرقمية التي لا تملك خادماً واحداً (CDN) على تراب المملكة -فيما علي بابا تستثمر في البنية السعودية- إنما تمارس استعماراً معكوساً: الأجنبي يحترم الأرض، بينما "ابن الداخل" يسرقها باسم التقنية. لعلها مفارقة هذا العصر: أن يكون الغريب أقرب من القريب، والبعيد أصدق من الحليف.
يزعمون أنّهم جسر رقمي؛ بيد أنّ الجسور لا تنهار كلّ خمس دقائق. "نحن نربطكم بالعالم" يقولون، فيما هم يقطعوننا عن أنفسنا. أغلب الظنّ أنّ في شعارهم "معاً نشاهد" مفارقة مُرّة: نشاهد معاً... الشاشة السوداء!
غير أن الجذور أعمق. هناك، في مستنقع MBC، تلك الإمبراطورية التي تحوّلت إلى معرض ضجيج بلا معنى… صدى يُغنّي نفسه، ويصفّق لوهمه. فمنذ إدراجها بالسوق المالية، لم يتغيّر شيء سوى ترويسة المِلْك. الإدارة بقيت كما هي، الكوادر ذاتها، الهوى هو ذاته: بيروتي النكهة، دُبيّ المزاج، بعيد عن وجدان المواطن.
والأنكى أنّ هذه المنصة تمارس ما يمكن تسميته "الاحتكار الانتحاري": تحتكر لتقتل، تملك لتُدمّر، تسيطر لتُشوّه. كأنّها جرّاح أعمى يُصرّ على إجراء عمليات القلب المفتوح، أو طيّار ثمل يقود طائرة مليئة بالأحلام نحو الهاوية. كلّ مباراة تنقلها تتحوّل إلى مأساة إغريقية: البطل (المُشاهد) يصارع القدر (التقطّع)، والجوقة (المشتركون) تنوح على المال الضائع والوقت المهدور.
في الملعب يُحارب اللاعبون من أجل النصر؛ على الشاشة يُحارب المشاهدون من أجل الصورة. بونو يحمي المرمى؛ المنصّة تخترق البيوت وتسرق الفرح. الهلال يلعب تحت الأضواء؛ نحن نتخبّط في الظلام. سالم الدوسري يُراوغ مدافعي مدريد؛ المنصّة تُراوغ حقوقنا كمشاهدين.
يلوح أنّ هذه المنصّة وجدت في التقطّع فلسفة وجودية: نحن نتقطّع، إذن نحن موجودون. نحن نُخيّب، إذن نحن مُهمّون. نحن نسرق اللحظة، إذن نحن نصنع التاريخ – تاريخ الفشل طبعاً- لعلّها تشبه من ينتظر باصاً لا يأتي أبداً، أو كمن يطرق باباً يعلم أنّ لا أحد خلفه. راهناً، صارت المنصّة متحفاً للكوارث البصرية: هنا انهيار الهلال وريال مدريد، وهناك تحلل الاتحاد والأهلي، وفي الزاوية رماد النصر وبيرسبوليس.
المنصّة تدّعي السعودية؛ خوادمها تتسكّع في الغربة كلاجئ رقمي يخاف العودة.. البثّ حصري؛ التقطّع ديمقراطي.
وإذ نقارن بين هذه المنصة ومنصات العالم، نرى الفارق كالفارق بين النور والظلمة، بين المجد والبؤس. فالعالم يُغنّي بالـ60fps، ونحن نهمس تحت 25fps ونصف رغبة. العالم يفتح لك زوايا الكاميرا، ونحن بالكاد نفتح التطبيق.
لكن… من قلب هذا الظلام، وُلِدت شمعة. ها هي "ثمانية" تُطلّ، لا كمنصة، بل كفكرة. لا كخيار، بل كضرورة. لا كبديل، بل كفارس يُنقذ الأميرة المخطوفة من الديناصور الرقمي.
ثمانية لا تزعم فقط أنها سعودية الاسم، بل هي سعودية القرار والملك والصوت والسرد. لا تعدنا بالبث فقط، بل بالاحترام. واحترام المشاهد ليس خدمة، بل شرف.
ذاك أن القضية ليست مجرد نقل مباراة… بل مسألة سيادة سرد. من يملك الكاميرا، يملك الحكاية. ومن لا يملك سرد نفسه، يُروى عنه كيف شاء الآخرون.
الشعب الذي يستعير عيون الغرباء محكوم بالعمى، والأمة التي تؤجّر ذاكرتها البصرية محكومة بالنسيان، والوطن الذي لا يوثق انتصاراته بعدسته محكوم بأن تُسرق منه بطولاته في وضح النهار.
وإذ نستعيد تلك الليلة: الهلال يقاتل بشرف، بونو يتصدّى كبطل، موسم الرياض يدفع من ماله ليُهدي المشهد، بينما تلك المنصة "شاهد"… تخذل اللحظة، وتطفئ الصورة. ندرك حينها أن المعركة ليست على أرض الملعب، بل على شاشات البيوت، في كرامة المشاهد، وفي وجدان الوطن.
نريد أن نرى مجدنا… واضحاً. بكاميرا لا ترتجف، وبمنصة لا تتلعثم، وبعدسة تحبّ هذا البلد كما نحبه. 

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤