06 يونيو 2025

أخلاق العبيد وأوهام الأحرار

خمسة آلاف عام من الركوع: في جينالوجيا العبودية المصرية

‏عبارة الدكتور أحمد عكاشة تضرب في الصميم كمطرقة على زجاج: “الشعب المصري اكتسب أخلاق العبيد نتيجة استعماره لخمسة آلاف سنة”. لكنّ الأدقّ أن نقول إنّ المصري لم يُستعمر فحسب، بل حُرم من أن يحكم نفسه حتى حين حكمه "مصريون". ذاك أنّ الطبقة الحاكمة، عبر التاريخ كلّه، كانت دائماً كياناً منفصلاً عن الشعب: إلهاً متجسّداً في العصر الفرعوني، خليفة مقدّساً في العصر الإسلامي، عبداً مملوكاً اشتُري من الأسواق، والياً عثمانياً، ثمّ عسكرياً انقلابياً. الحاكم لم يكن يوماً نتاجاً طبيعياً للمجتمع، بل كان دائماً مفروضاً من فوق أو من الخارج. والأخطر أنّ المصري نفسه صار يرى في هذا الفرض قدراً محتوماً، كأنّ السماء لا تُمطر على أرض النيل إلاّ طغاة.

‏والحال أنّ البداية الحقيقية لبنية الخضوع تعود إلى الفراعنة أنفسهم. الفرعون لم يكن مجرّد ملك، بل إلهاً حيّاً يُعبد، يملك الأرض ومن عليها. والمصريون لم يكونوا مواطنين في دولة، بل عبيدًا  لإله متجسّد. هذا التأليه للحاكم زرع في الوعي الجمعي بذرة سامّة: السلطة شيء مقدّس متعالٍ، لا يُساءل ولا يُحاسب. وحين جُنّد مئات الآلاف من المصريين بالسخرة لبناء الأهرامات، كانوا يبنون قبوراً لآلهتهم، لا معابد لحريتهم. البناء العظيم الذي نفتخر به اليوم كان، في جوهره، نُصباً للعبودية المقدّسة. كلّ حجر في الهرم يحكي قصة ظهر انحنى، وكلّ ممرّ يشهد على أنفاس احتُبست في الصدور خوفاً من الإله الحيّ.

‏هذا التقديس استمرّ وتحوّر عبر العصور كنهر جوفيّ من الخضوع. الهكسوس احتلوا الدلتا وحكموا بالقوة حتى طردهم أحمس من الجنوب، لكنّ النصر لم يُنتج وعياً بالقوة الذاتية، بل عزّز فكرة أنّ الخلاص يأتي من قائد استثنائي، لا من إرادة جماعية. ثمّ جاء الفرس مرتين، يليهم البطالمة بعد الإسكندر، وفي كلّ مرحلة كان السلاح الوحيد المتاح للمصري هو الصبر. لم تكن هناك مقاومة طويلة النفس، بل عصيانات قصيرة محدودة سرعان ما تُسحق فتضيف طبقة جديدة من اليأس. بدأت تتشكّل ملامح “التكيّف” كبديل دائم عن المقاومة، وصار البقاء على قيد الحياة فضيلة تفوق الحياة بكرامة.

‏مع الرومان والبيزنطيين تعمّقت الهوّة حتى صارت هاوية. حوّلت بيزنطة مصر إلى مستودع ضريبي عملاق، خزينة تُنهب بلا توقف، مهملةً أيّ تنمية حقيقية. والأنكى أنّها اضطهدت المسيحيين المصريين الذين تمسّكوا بكنيستهم القبطية كملاذ أخير للهوية، كقشّة الغريق في بحر الاستلاب. هنا نشأ إحساس عميق، يكاد يكون وجودياً، بأنّ "السلطة شيء خارجي"، كائن غريب لا صلة له بالشعب. المصري صار خارج منظومة القرار لكنّه داخل منظومة الجباية، يدفع دون أن يُستشار، يُحكم دون أن يحكم، يموت دون أن يحيا.

‏وفي كلّ مرحلة من هذه المراحل، كان المصري يُمنع من حمل السلاح. هذا الحظر لم يكن عارضاً أو استثنائياً، بل سياسة ممنهجة استمرّت أكثر من ألفي عام. مثلاً: الفرس، البيزنطيون، العرب، المماليك، العثمانيون، كلّهم حرموا المصري من السلاح قانوناً وممارسةً. كان يُعاقب إن وُجد معه حتى خنجر صغير أو سكّين مطبخ يزيد طولها عن شبر. شعب أعزل بالكامل في مواجهة سلطة مدجّجة بالسلاح - هذه وصفة مثالية لإنتاج العبيد، أو بالأحرى لتحويل البشر إلى قطيع.

الفتح الإسلامي في 641م مثّل منعطفاً حاسماً في تاريخ الخضوع المصري. دخل عمرو بن العاص بجيش صغير، سبعة آلاف مقاتل فقط، فلم يواجه أي مقاومة حقيقية. الأقباط، المنهكون من الاضطهاد البيزنطي، استقبلوه كمحرّر. لكن سرعان ما اكتشفوا أنّهم استبدلوا سيّداً بسيّد آخر. فُرضت الجزية، وأُسّس نظام طبقي صارم يميّز المسلم عن القبطي في كلّ شيء: الملبس، المسكن، الشهادة أمام القضاء، حتى في ركوب الدواب. بدأ تآكل اللغة القبطية تدريجياً، ومعها تآكلت ذاكرة شعب كامل. محو اللغة هو محو للهوية، وحين تُمحى الهوية يسهل استعباد الجسد.

‏وهنا جاءت مقولة منسوبة لعمرو بن العاص، تختزل خمسة آلاف عام في سطور: "مصر نيلها عجب، وترابها ذهب، ونساؤها لعب، ورجالها مع من غلب، تجمعهم الطبلة وتفرّقهم العصا". كلّ كلمة في هذه المقولة تستحقّ التوقّف: "رجالها مع من غلب" - تاريخ كامل من التقلّبات والولاءات المتغيّرة حسب ميزان القوى. “تجمعهم الطبلة” - الحشود التي تهتف لكلّ حاكم جديد، تنسى بالطبلة الجديدة صاحب الطبلة القديمة. “تفرّقهم العصا” - الخوف الجماعي من بطش السلطة يحوّلهم من حشد إلى شتات في لحظة. والأهمّ المقولة الأخرى المنسوبة إليه: “أطوع الناس للسلطان، وأرضاهم بالقسم، وأقلّهم فُجوراً”. هذا الجزء الأخير يحمل معنى عميقاً: الخضوع جعلهم حتى أقلّ قدرة على التمرّد الأخلاقي، على الفجور بمعناه الثوري. صاروا طيّبين أكثر من اللازم، مسالمين حدّ الاستسلام. والأنكى أنّ هذه المقولة، رغم مرور أربعة عشر قرناً عليها، لا تزال صالحة كأنّها كُتبت بالأمس.

‏العباسيون والطولونيون رسّخوا المركزية وعمّقوا التهميش. لم يُستوعب المصري في الدولة العباسية كقوّة عسكرية أو سياسية، بل فُرضت عليه الطاعة دون إشراكه في إدارة شأنه. كان كالثور الذي يدير الساقية: يدور ويدور لينتج الماء لغيره. استمرّ تطبيع الإقصاء السياسي، وبدأ يتحوّل إلى بنية نفسية عميقة لا تُرى بالعين المجرّدة: المصري يُحكم، لا يَحكم. هذه ليست مجرد حقيقة سياسية، بل صارت جزءاً من الوعي الذاتي، من تعريف المصري لنفسه.

‏لكنّ الذروة المطلقة في تاريخ الاستعباد النفسي جاءت مع الفاطميين المغاربة. دخلوا مصر تحت شعار آل البيت، مستغلّين العاطفة الدينية، ثمّ حوّلوها إلى مختبر للجنون المقدّس للباطنية. أعلنوا عقائد لم يسمع بها المصريون: ألوهية الإمام، تعطيل الحدود الشرعية، تأليه الخلفاء. الحاكم بأمر الله، ذلك المجنون المتوّج، حوّل حياة المصريين إلى مسرحية عبثية: منع أكل الجرجير، أمر الناس بالسير ليلاً والنوم نهاراً، حرّم الملوخية ثمّ أباحها، منع النساء من الخروج من بيوتهنّ سنوات، أمر بذبح الكلاب، فرض سبّ الصحابة في المساجد . كانت هذه أوّل مرة تُستخدم فيها العقيدة الدينية كأداة تعذيب نفسي جماعي. المصريون وجدوا أنفسهم يطيعون أوامر لا يفهمونها، يمارسون طقوساً لا يؤمنون بها، يعيشون في عالم مقلوب رأساً على عقب. العبودية هنا تجاوزت الجسد والعقل لتصل إلى الروح. وحين اختفى الحاكم في ظروف غامضة، لم يحتفل المصريون، بل انتظروا الحاكم التالي ليملي عليهم جنونه الخاص.

‏صلاح الدين الأيوبي الكردي جاء كالمخلّص. أطاح بالفاطميين، أعاد المذهب السنّي، أنقذ المصريين من الجنون الباطني. لكنّه في الحقيقة استبدل قيداً بقيد. أسّس حكماً عسكرياً كردياً، وحوّل مصر إلى قاعدة حربية. المصري الذي تنفّس الصعداء من جنون الحاكم بأمر الله، وجد نفسه يدفع ثمن حروب لا ناقة له فيها ولا جمل. تغيّرت العقيدة لكن لم تتغيّر البنية: الحاكم من خارج البلاد، الشعب يُستخدم ولا يُستشار، الثروة تُستنزف لحروب لا يشاركون فيها.

‏ثمّ جاء المماليك ليجسّدوا المفارقة في أقصى تجلّياتها، في أكثر صورها فجاجة وعبثية. تخيّل المشهد: عبيد سابقون، اشتُروا أطفالاً من أسواق النخاسة في القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى، دُرّبوا على القتال، تحرّروا، ثمّ صاروا سادة مصر! كلّ سلطان مملوكي كان عبداً بالأمس، جُلب في قفص، بيع واشتُري، ثمّ صار يحكم أحفاد الفراعنة. والمصريون، الأحرار نظرياً، أبناء من يقولون أنهم أقدم حضارة في التاريخ، يركعون أمام عبيد سابقين، يقبّلون أيدي من كانوا بالأمس سلعة في سوق النخاسة. أليست هذه ذروة المأساة الإنسانية؟ أن يحكم العبد السابق من يقول أنه الحرّ الأصيل؟

لم يُسمح للمصري بدخول الجيش المملوكي أو المشاركة في السياسة. عاش على هامش دولة لا تراه إلاّ كبقرة حلوب، يدفع الضرائب ويشاهد قلاع العسكر من بعيد. ترسّخت عقدة العزلة: مصر يحكمها غير المصريين، والمصري ضيف في بلده.

‏العثمانيون أكملوا مسيرة الإذلال الممنهج. حوّلوا مصر إلى ولاية نائية تدفع الخراج للباب العالي في إسطنبول. مصر، أمّ الدنيا، صارت مجرّد رقم في دفاتر المحاسبة العثمانية. بقيت طبقة المماليك في الصدارة كوسطاء للنهب، وحُرم المصري من التجنيد في الجيش العثماني، وحوصر اقتصادياً بنظام الالتزام الذي حوّل الفلاحين إلى أقنان. المصري صار فلاّحاً في مزرعة كبيرة اسمها مصر، يُستخرج منه الريع كما يُستخرج الماء من البئر. السلطة مفهوم أجنبي تماماً، يأتي من إسطنبول محمولاً على ظهور الإنكشارية. والطاعة صارت ليست مجرّد وسيلة نجاة، بل شرط وجود. هنا تبلورت نهائياً “أخلاق المزرعة” في مقابل “أخلاق الدولة”. في الدولة، المواطن يشارك في القرار ويحمل السلاح دفاعاً عن وطنه. في المزرعة، العامل يطيع ويُنتج ويصمت. المصري تربّى على أخلاق المزرعة قروناً: يعمل ولا يحكم، يُساق ولا يُنتخب، يُكافأ على الطاعة لا على المبادرة.

‏ثمّ جاءت الحملة الفرنسية (1798-1801) كصاعقة في سماء صافية. نابليون دخل بجيش حديث وعلماء ومطبعة، حاملاً وعود التنوير والحرية. للمرّة الأولى واجه المصريون حداثة أوروبية بكلّ أدواتها العلمية والعسكرية. فماذا حدث؟ انتفض المصريون! قاوم ثوّار من الأزهر والحارات الشعبية، قاتلوا في الشوارع لدقائق، لكنّ المدافع الفرنسية سحقتهم. نُهبت القاهرة نهباً منظّماً، قُتل الآلاف، دُمّرت أحياء بكاملها. ومع ذلك، ولأوّل مرّة منذ قرون، تشكّلت فكرة “الوطن” في الوعي المصري. لم يعد الصراع بين مسلم ومسيحي، أو بين سنّي وشيعي، بل بين مصري وأجنبي. بدأت الولادة الأولى للوعي الوطني، لكن - وهنا المأساة - لم تكن هناك أدوات سياسية أو تنظيمية لترجمة هذا الوعي. فما إن انسحب الفرنسيون حتى عاد كلّ شيء كما كان. الوعي الوليد أُجهض في مهده، وعاد المصريون إلى سباتهم التاريخي.

‏محمد علي باشا (1805-1848) بدا في البداية كأنّه يفتح صفحة جديدة. ألباني طموح، ذكي، قاسٍ، بنى جيشاً حديثاً ومصانع ومدارس وأرسل البعثات إلى أوروبا. لكن انظر إلى ثمن هذا “التحديث”: التجنيد الإجباري الذي قاومه الفلاّحون بوحشية يائسة. كانوا يقطعون أصابعهم بالسواطير، يفقأون عيونهم بالمسامير، يلقون أنفسهم من فوق الأسطح، يشوّهون أجسادهم بأيّ طريقة، كلّ هذا هرباً من جيش “الباشا”. حين يفضّل الإنسان بتر عضو من جسده على الخدمة في جيش بلاده، فهذا يعني أنّ البلاد لم تعد بلاده، والجيش ليس جيشه. محمد علي قمع هذه المقاومة بوحشية مضاعفة. جمع المشوّهين أنفسهم في كتائب خاصة، وأجبر القرى على تقديم بدلاء. بنى دولة حديثة، نعم، لكنّها دولة “بلا شعب سياسي”. المصري فيها رقم إنتاج، مادّة خام للتحديث، لا مواطن له رأي أو إرادة.

‏وفي خضمّ هذا “التحديث” القسري جاءت واحدة من أفظع جرائم التاريخ المصري الحديث: حفر قناة السويس (1859-1869). الخديوي سعيد ثمّ إسماعيل سخّرا مئات الآلاف من المصريين للحفر بالسخرة في ظروف جهنّمية. عشرات الآلاف ماتوا - نعم، عشرات الآلاف! - في هذا المشروع “الحضاري”. ماتوا من الإنهاك، من العطش، من الأمراض، من ضربات السياط. جثثهم دُفنت في الرمال التي حفروها، صارت جزءاً من القناة نفسها. والمفارقة المُرّة، المأساة التي تفوق كلّ مأساة: القناة التي حُفرت بدماء المصريين صارت ممرّاً للاستعمار الأجنبي، شرياناً ينقل ثروات أفريقيا وآسيا إلى أوروبا، متجاوزاً مصر التي دفعت الثمن الأغلى. المصري حفر قبره بيديه، ثمّ دُفن فيه، ثمّ بُني فوقه جسر للآخرين.
الاحتلال البريطاني (1882-1952) أضاف بُعداً جديداً من الإذلال: الاستعمار بقناع الحداثة والرسالة الحضارية. الإنجليز لم يأتوا كغزاة صرحاء مثل المغول، بل كـ”مُحدّثين” يحملون “عبء الرجل الأبيض”. لكنّهم في الحقيقة أرادوا القطن المصري لمصانع مانشستر، والقناة لطريق الهند. الثورة العرابية (1881-1882) مثّلت محاولة يائسة لكسر القيد. للمرّة الأولى منذ قرون، جيش “وطني” بقيادة ضابط مصري فلاّح يواجه الخديوي والأجانب. لكنّ المحاولة سُحقت في التلّ الكبير، وعُرابي نُفي، والجيش المصري حُلّ، والمأساة أن الشعب يصفق. الفشل هنا لم يكن مجرّد هزيمة عسكرية، بل كان تأكيداً نفسياً جماعياً: حتى حين نحاول، نفشل. حتى حين نثور، نُسحق. العجز المكتسب - الذي وصفه عالم النفس مارتن سليغمان - ترسّخ أكثر: حين يتعرّض كائن حيّ لصدمات متكرّرة لا يستطيع تجنّبها، يتوقّف عن المحاولة حتى حين تُتاح له الفرصة.
ثورة  1919السلمية  أشعلت الأمل مجدّداً. سعد زغلول والوفد، الطلبة والعمّال، المسلمون والأقباط، الجميع في الشارع ضدّ الإنجليز. لكن ماذا أنتجت الثورة في النهاية؟ نُخبة من المثقّفين المنفصلين عن الشعب، يتحدّثون الفرنسية أفضل من العربية، يحلمون بباريس أكثر مما يعرفون القاهرة. ظهر نموذجان سيطبعان المستقبل كله: “المثقّف المستسلم” الذي يُنظّر للواقع أكثر ممّا يغيّره، يكتب المقالات اللاذعة ثمّ يذهب لتناول الشاي مع المستعمر. و”الفلاّح المقهور” الذي لا يفهم لغة النُخبة، يحلم بالخلاص دون أن يملك أدواته، ينتظر المخلّص دون أن يعرف شكله. الطاعة بقيت العملة المقبولة الوحيدة في سوق السياسة.

‏بيد أنّ الأخطر من كلّ ما سبق كان دور المؤسسة الدينية في “تديين الطاعة”. الأزهر والفقهاء حوّلوا الخضوع للأجنبي من ضرورة سياسية إلى واجب ديني. دستور مطلق للاستسلام. الفقه السلطاني الذي تطوّر عبر القرون شرعن كلّ أشكال الاستبداد، جعل الخروج على الحاكم المستعمر  كبيرة من الكبائر توازي الكفر. “طاعة ولي الأمر الانجليزي” صارت عبادة، و”الصبر على جور السلطان” صار من علامات الإيمان. الدين الذي جاء ليحرّر الإنسان من عبادة العباد، تحوّل إلى أداة لتكريس عبادة العباد باسم ربّ العباد. وهنا أيضاً لعبت الطبقة الوسيطة من المصريين دورها: العُمد، مشايخ القرى، كتبة الدواوين، صغار الموظّفين؛  كلّهم مصريون يقمعون مصريين، يُنفّذون أوامر الأجنبي على أهلهم، يأكلون الفتات من موائد السادة ويجلدون إخوانهم بالسياط.

الضبّاط الأحرار (1952) وعدوا بكسر كلّ هذا. جمال عبد الناصر، الضابط الوسيم ذو الصوت الجهوري، جسّد حلم الخلاص. قضى على الإقطاع، أمّم القناة، تحدّى الاستعمار، وللحظة بدا كأنّ المصري سيحكم مصر أخيراً. لكن انظر ماذا حدث: عبد الناصر بنى دولة بوليسية متطوّرة، سجوناً لا تقلّ وحشية عن سجون أسلافه، جهاز مخابرات يتنفّس مع المواطنين. قضى على الإقطاع الزراعي ليؤسّس إقطاعاً أمنياً. حرّر القناة ليستعبد الشعب. والمصريون، بحكم التعوّد التاريخي على البحث عن الفرعون المخلّص، وجدوا في عبد الناصر فرعونهم الحديث. صفّقوا له حين انتصر، وصفّقوا له حين انهزم. وحين مات، بكوه كما لم يبكوا أحداً من قبل، ليس حزناً عليه فقط، بل حزناً على أنفسهم: من سيكون الأب الآن؟ من سيفكّر بدلاً منّا؟ من سيقرّر مصائرنا؟

‏عاش المصريون
‏الكابوس الذي لا ينتهي. الدولة صارت أمنية بامتياز، كلّ مواطن مُراقب بالقوّة أو بالإمكان، مُدرّب على أن يكون مطيعاً حتى وهو غاضب، صامتاً حتى وهو يصرخ من الداخل. ولعلّ الأدهى في المعادلة المصرية المعاصرة احتكار الجيش لمفهوم الرجولة والوطنية. الجندي، في الثقافة الرسمية، هو النموذج الأوحد للبطولة والتضحية والانتماء. البدلة الكاكي هي رمز الشرف الوحيد. أمّا المواطن المدني - المدرّس، المهندس، الطبيب، العامل - فكلّهم يُقاسون إلى البدلة العسكرية فيبدون باهتين. المصري لا يثبت وطنيّته إلاّ بالطاعة العمياء.

‏بيد أنّ الأخطر لألاف السنين من تجريم الثورة كان تجريم التفكير نفسه. المصري لم يُعاقب على التمرّد فحسب، بل على مجرّد التفكير فيه. منظومة القمع المتكاملة - من البيت إلى المدرسة إلى المعبد/الكنيسة/المسجد إلى مقرّ العمل - رسّخت معادلة قاتلة: التفكير عبء والطاعة راحة. التلقين في المدارس علّم الحفظ والتكرار، لا النقد والابتكار. البيت درّب على “اسمع الكلام” و”امشِ جنب الحيط”. الوظيفة كافأت النفاق والمداهنة، وعاقبت الصدق والمبادرة. الإبداع صار تهمة، والتميّز صار خطراً. العقل المصري صار مُدرّباً على تجنّب التفكير كما يتجنّب المرء حقل ألغام. “عقوبة التفكير” هذه أخطر من عقوبة الفعل، لأنّها تقتل الثورة في مهدها، في الفكرة قبل أن تصير فعلاً.

‏علم النفس الحديث يشرح ما حدث بدقّة علمية. تجربة ستانلي ميلغرام عن الطاعة للسلطة أثبتت أنّ 65% من الناس العاديين مستعدّون لإيقاع أذى شديد بالآخرين إذا أمرتهم سلطة يرونها شرعية. فيليب زيمباردو في تجربة سجن ستانفورد أظهر كيف يتقمّص الناس أدوارهم القهرية بسرعة: السجّان يصير سادياً والسجين يصير ذليلاً خلال أيام. المصريون عاشوا في “سجن ستانفورد” ممتدّ لخمسة آلاف عام. تقمّصوا دور السجناء حتى نسوا أنّه مجرّد دور. العجز المكتسب صار جزءاً من الحمض النووي الثقافي.

والمفارقة الكاشفة أنّ المصري نفسه، حين يهاجر، يتحوّل كالسحر. في أمريكا أو أوروبا أو الخليج، يصير إنسانًا نموذجياً: يحترم القانون، يقف في الطابور، يدفع الضرائب، يشارك في الحياة العامة، يدافع عن حقوقه بلا خوف. لكن ما إن تطأ قدماه أرض المطار في القاهرة حتى يرتدي قناع العبد من جديد: يدفع الرشوة، يكسر القانون، يتملّق الموظّف، ينحني للسلطة. نفس الشخص، شخصيّتان. هذا يثبت أنّ المشكلة ليست في الجينات بل في البيئة، ليست في الإنسان بل في النظام.

‏أما النكتة السياسية المصرية؛ فتلك ظاهرة فريدة، وليست مجرّد تسلية شعبية. إنّها آلية دفاع نفسي معقّدة تستحقّ دراسة مستقلّة. المصري الذي لا يستطيع تغيير الطاغية فيسخر منه. يحوّل الغضب إلى ضحك، والثورة إلى نكتة، والألم إلى ابتسامة صفراء. لكنّ السخرية، في تحليلها الأخير، صمّام أمان للنظام وليست ضدّه. النكتة تجعل الطغيان محتملاً، تُفرّغ الغضب بدلاً من أن تراكمه، تُخدّر بدلاً من أن توقظ. الطاغية الذكي يشجّع النكات عن نفسه، يعرف أنّها تطيل عمره السياسي. الشعب الذي يضحك على حاكمه لن يثور عليه.

‏الفخر الفرعوني يلعب دوراً مماثلاً في التخدير الجماعي. “نحن بُناة الأهرامات”، “نحن أقدم حضارة في التاريخ”، “نحن من علّمنا العالم”… عبارات تُردّد لتخدير الوعي بالحاضر البائس. لكنّ الحقيقة القاسية أنّ المصري المعاصر لم يبنِ هرماً ولم يخترع كتابة ولم يؤسّس حضارة. يعيش على أطلال مجد لم يصنعه، يستخدم الماضي كمورفين ضدّ ألم الحاضر. حتى السياحة، مصدر الرزق الأساسي، قائمة على مشاهد  بيع جثث الماضي: المومياوات، المقابر، المعابد. نعيش على الموت، نأكل من الموتى، نفتخر بما صنعه الأموات. أليست هذه ذروة الاستلاب؟

‏ثورة يناير 2011 بدت للحظة كأنّها كسرت اللعنة. المصريون في الميدان، يهتفون “عيش، حرّية، عدالة اجتماعية”، يكسرون حاجز الخوف، يسقطون الفرعون. العالم كلّه يشاهد مذهولاً: المصريون يثورون! لكن سرعان ما انكشف عمق المأزق. الثوّار لم يملكوا أدوات التغيير الحقيقي وثاروا على الشخص الخاطئ: لا ذاكرة ثورية تراكمية، فكلّ ثورة مصرية تبدأ من الصفر وتنتهي إلى الصفر. لا تنظيمات سياسية حقيقية، فالدولة الأمنية سحقتها عبر عقود. لا ثقافة، فالاستبداد علّمهم أنّ القوّة هي الحقّ الوحيد. لا رؤية واضحة للمستقبل، فالماضي والحاضر البائس لم يتركا مساحة للحلم.

والأخطر أنّ الثورة نفسها أعادت إنتاج أخلاق العبيد بشكل لا واعٍ. بحثوا عن “المخلّص”، عن “الزعيم”، عن “الأب” الذي يقود ويقرّر. حاولوا مع الإخوان المسلمين، الذين وعدوا بحكم الله، فاكتشفوا أنّهم يريدون حكم المرشد.

‏حين ظهرت نُخب تحاول قيادة التغيير - سواء في 1919 أو 2011 - بدت منشقة عن الواقع، تتحدّث لغة لا يفهمها الشارع، أو ملتحقة بالسلطة تبرّر وتُنظّر، أو خائفة من الجماهير نفسها. النخبة المصرية تحمل في داخلها عبداً صغيراً يحلم بأن يصير سيّداً، لا إنساناً حرّاً يحلم بمجتمع أحرار.

‏بعد خمسة آلاف عام من التدريب الممنهج على الطاعة، يقف المصري أمام مرآة التاريخ فيرى صورة مُركّبة: فرعون ميّت يحلم به، ومملوك يحكمه، وفلاّح يُستعبد، ومثقّف يبرّر، وثائر يفشل. كلّ طبقة من طبقات التاريخ أضافت قيداً جديداً، حتى صار المصري مثل تلك الدمى الروسية: تفتح واحدة فتجد داخلها أخرى أصغر، وهكذا حتى تصل إلى عبد صغير جداً في القلب، يرتجف خوفاً من الحرّية أكثر مما يرتجف من العبودية.

‏الحرّية للمصري ليست حقّاً يُمارس، بل حُلماً يُؤجّل إلى أجل غير مسمّى. والكرامة ليست واقعاً يُعاش، بل شعاراً يُردّد في المناسبات. بين الحلم والواقع، بين الشعار والممارسة، هوّة سحيقة محشوّة بخمسة آلاف عام من التدريب على الركوع. المصري لم يتعلّم أن يكون سيّداً، بل تعلّم أنّ الطاعة أقلّ تكلفة من الغضب، والسكوت أقصر طريق للنجاة، والنفاق أضمن وسيلة للرزق.

‏طريق النجاح المصري يبدأ بالاعتراف بحجم الكارثة، لا بإنكارها أو تجميلها. بتفكيك بنية العبد الداخلي، طبقة تلو طبقة، بصبر أيوب ودأب النملة، حتى يصل إلى الإنسان الحرّ المدفون في الأعماق.

‏العبيد لا يُلامون حين يُولدون في القيد، فهذا قدرهم الذي لم يختاروه. يُلامون فقط حين يُحبّون قيودهم، حين يدافعون عنها، حين يورّثونها لأبنائهم كميراث مقدّس. والمصريون اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن يواجهوا حقيقة عبوديتهم التاريخية ويبدأوا رحلة التحرّر الطويلة الشاقة، وإمّا أن يستمرّوا في إنكارها، فيحكموا على أنفسهم وأحفادهم بخمسة آلاف عام أخرى من الركوع.

‏الحرّية ليست ثورة في ميدان، بل ثورة في الوعي. ليست هتافاً في مظاهرة، بل همساً في النفس يرفض الواقع الافتراضي عن التاريخ المزيف. ليست لحظة انفعال، بل مسيرة أجيال. وهذه الثورة/المسيرة تحتاج ما هو أكثر من الشجاعة: تحتاج الصبر على بناء الوعي الحرّ، حجراً فوق حجر، جيلاً بعد جيل. تحتاج تعليماً يُنتج عقولاً ناقدة لا ببغاوات مُردّدة، ثقافة تحتفي بالسؤال لا بالإجابة الجاهزة، ذاكرة تحفظ دروس المقاومة لا طقوس الطاعة.

‏حتى ذلك الحين، سيبقى المصري يحمل عبده الصغير في داخله كلعنة فرعونية، ينتظر اللحظة المناسبة ليُسلّمه مفاتيح الروح. والطغاة يعرفون هذا جيّداً، لذلك يبتسمون في الصور الرسمية. يبتسمون لأنّهم يعرفون أنّ الشعب الذي يحمل ذاكرة خوف لخمسة آلاف عام لن يصنع ذاكرة مقاومة في خمس سنوات. يبتسمون لأنّهم ورثوا تركة ثقيلة من الخضوع المقدّس، لا يحتاجون إلاّ لصيانتها وتجديد طلائها من حين لآخر.

‏لكنّ التاريخ، وهذا عزاؤنا الأخير، مليء بالمفاجآت. والشعوب التي بدت ميتة لقرون، استيقظت فجأة وصنعت المعجزات. ربّما يحتاج المصريون إلى معجزة، أو ربّما يحتاجون فقط إلى النظر في المرآة طويلاً، طويلاً جداً، حتى يروا ما وراء العبد الصغير المرتجف. حتى يروا الإنسان.

24 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤