17 أغسطس 2025

التدوين الأول: أو كيف نكتب التاريخ بالممحاة

 من احتكار العباسيين للذاكرة إلى احتكار إيران للدموع .. رحلة في تزوير ألف عام
يلوح أنّ في تاريخنا جريمة قتل مثالية؛ الضحية موجودة، الجثة محفوظة، لكنّ القاتل كتب محضر التحقيق. والحال أنّ العباسيين، حين أسقطوا بني أمية سنة 132 للهجرة، لم يكتفوا بقتلهم مرّة واحدة؛ قتلوهم كل يوم في كتب التاريخ، ثم ورّثونا الجثث على أنها الحقيقة.
بيد أنّ المفارقة الأعمق تكمن في الشعار الذي رفعوه: "الرضا من آل محمد". عقود من التآمر تحت راية غامضة، تُرضي الشيعة دون أن تُنفّر السُنّة، تَعِد دون أن تلتزم. تحفة في النفاق السياسي لم يتفوّق عليها إلا شعار "المقاومة والممانعة" في زماننا: وعد بتحرير القدس ينتهي باحتلال بيروت وبغداد وصنعاء.
ذاك أنّ أبا جعفر المنصور، في رسائله المتبادلة مع محمد النفس الزكية قُبيل قتله سنة 145هـ، لم يتورّع عن الطعن في عليّ بن أبي طالب، نعم، عليّ نفسه الذي باسمه قامت الثورة العباسية! كتب المنصور أنّ علياً فشل في التحكيم، وأنّ الحسن تنازل بجُبن، وأنّ الحسين انخدع بأهل العراق. رسائل محفوظة في كتب التاريخ تكشف النفاق: يستغلّون اسم آل البيت للوصول، ثم يطعنون فيهم للبقاء. المنصور والنفس الزكية، أبناء دفتر لا أبناء مشروع، يتبادلان التُهم عبر البريد نفسه الذي أسّسه الأمويون. أليس هذا بالضبط ما يفعله ورثتهم اليوم؟ يرفعون راية المقدّس ثم يذبحونه على مذبح السلطة، من طهران إلى الضاحية الجنوبية.
أمّا الأمويون، فقد كانوا على الأقل صادقين في دنيويتهم. لم يدعوا القداسة؛ ادعوا الكفاءة. معاوية أسّس البريد وجعل الرسالة تصل من دمشق إلى الأندلس في أسابيع بدل شهور، ثورة اتصالات في زمن الجِمال والخيل. عبد الملك عرّب الدولة وضرب أول دينار عربي، محرّراً الاقتصاد من هيمنة البيزنطيين. الوليد بنى من دمشق إلى قرطبة، تاركاً عمارة ما زلنا نلتقط صور السيلفي أمامها. حتى يزيد، نعم، يزيد المَلعون ألف مرة كل عاشوراء، كان في لحظاته الصافية بين كأس وكأس شاعراً رقيقاً وموسيقياً مرهفاً. 
لكنّ التاريخ كتبه الموالون لا المحايدون. أبو مخنف، حفيد مقاتلي صفّين، روى كربلاء بعد وقوعها بعقود كأنه شاهدها بعينيه، حوّل ذاكرة الكوفة المجروحة إلى تاريخ رسمي. ونصر بن مزاحم، الشيعي الذي ثار حتى على العباسيين، صاغ صفين كملحمة بين الحق والباطل. وهشام الكلبي، الذي رفضه المحدّثون واعتمده المؤرّخون، حفظ ما يُريد وأهمل ما يُريد. ثلاثة رواة شكّلوا ذاكرتنا: الأول لم يشهد ما يروي، والثاني متحيّز بإقراره، والثالث مشكوك في صدقه. ومن رواياتهم المتضاربة نسجنا "حقيقة" كربلاء وصفّين حتى صارت أكبر من التاريخ نفسه.
والطريف – إن جاز أن نضحك والدم يسيل منذ ألف وأربعمائة عام – أنّ كربلاء نفسها أكبر من حقيقتها بألف مرّة. معركة خاسرة خاضها رجل شجاع لكن سيء التقدير ضد خصم أقوى وأدهى. سبعون قتيلاً في صحراء العراق تحوّلوا إلى ملحمة كونية تُعاد كلّ عام بدموع مُصنعة في إيران وموزعة على الميليشيات. رأس مال لا ينضب من المظلومية، يستثمرونه بفائدة مركّبة من اللطم والنواح، والعائد؟ صواريخ كاتيوشا وكلاشنيكوف.
راهناً، ونحن نقرأ الطبري كأنه وحي منزل، نقرأ في الحقيقة النسخة العباسية المنتقاة منها. يريدون أن نلعن الأمويين بحماسة، وننسى أنّ من نلعنهم فتحوا الأندلس ووصلوا بواتييه، بينما من نُمجدهم قتلوا بعضهم حتى استوردوا المماليك والأتراك ليحكموا باسمهم. مفارقة لذيذة: نفتخر بقصر الحمراء ونلعن من وضع حجر أساسه، نتغنّى بابن رشد القرطبي وننسى أنه حفيد حضارة الذين نشتمهم.
وأغلب الظن أن بيت الحكمة – معجزتنا الحضارية التي نلوّح بها في وجه الغرب – كان مصنع تزوير بامتياز. الورّاقون، أجدادنا المثقّفون العضويون، عاشوا بين خوف السلطة وطمع المال. من امتدح العباسيين وشتم الأمويين نال الذهب والحظوة، ومن تردّد أو اعترض نال السجن أو النسيان. مروان بن أبي حفصة يُنشد: "أنّى يكون وليس ذاك بكائنٍ * لبني البنات وراثة الأعمام"، يُنكر حقّ آل عليّ لصالح العباسيين ، فيُغدق عليه المال. بينما غيره ممن تجرّأ على المديح الخاطئ أو الصمت المُريب، اختفى من كتب الأدب كأنّه لم يكن. القصيدة محكمة، الشاعر سجين، الدين قافية، الدم إيقاع، والحقيقة؟ ممحوة. إذن مالفرق بين ورّاق القرن الثالث الهجري ومذيع "الميادين"؟ الأول كان يكذب بخط النسخ؛ الثاني يكذب بالـ HD. كلاهما يعرف أنه يكذب، وجمهور المحور يعرف أنه يكذب، ويتظاهر بالتصديق.
لعلّ الأكثر كوميدية – والتراجيديا، و إذا تكررت تصير مهزلة، أنّ اللعبة ذاتها تُلعب اليوم بحماسة المبتدئين. إيران تُصدّر "ثورتها" ملفوفة بعمائم سوداء وشعارات عن المستضعفين، وهي إمبراطورية فارسية تحلم بكورش وتتكلّم بلسان الحسين. تركيا تبيعنا العثمانية الجديدة في مسلسلات مدبلجة، ننام ونصحو على "قيامة أرطغرل" ونسينا قيامتنا. مصر لا تعرف هل هي فرعونية أم عربية أم إسلامية؛ كممثّل على خشبة مظلمة: نسي النص، فقد الدور، يرتجل في العتمة والجمهور غادر منذ زمن. الأسد -لاذكره الله بالخير-  ورث الجمهورية عن أبيه كما يُورث المحل التجاري. الإسلاميون يحلمون بالخلافة عبر التيك توك، يريدون عُمر بن الخطاب وهم أقرب إلى عُمر بن أبي ربيعة.
والحال أن محمد عابد الجابري، ذلك العقل المغربي الذي حاول فكّ اللغز، وضع إصبعه على الجرح حين تحدّث عن "التدوين الأول" لحظة احتكار الذاكرة وتحويلها إلى بضاعة سياسية. لكنّه، رحمه الله، كان متفائلاً أكثر من اللازم حين دعا إلى "تدوين ثانٍ". كأن المشكلة في النسخة وليست في أصل الكتابة. نحن لا نحتاج إلى تدوين جديد؛ نحتاج إلى درجة الصفر من التدوين، إلى بياض نتركه بياضاً، إلى صمت لا نملؤه بالثرثرة المقدّسة.
والمُضحك المُبكي – وما أكثر ما يُضحك ويُبكي في بلادنا – أنّنا الأمّة الوحيدة التي تهدم حاضرها انتقاماً لماضٍ لم يحدث كما نظنّ. نتقاتل على من كان محقّاً في صفين، ولا نعرف من سبب نكبة غزة اليوم. المحور: يلعن يزيد كل صباح، بينما يزيدون جُدد يحكمون "السنة" بالكيماوي والبراميل والمسيّرات. يبكون الحسين منذ قرون، والحسينيّون الجُدد "السنة"  يُذبحون الآن من بغداد إلى صنعاء، لكن دموعهم محجوزة حصرياً لكربلاء: ماركة مسجلة، حقوق الطبع محفوظة لطهران.
لئن كان ثمّة ما نتعلمه من هذا العبث المتواصل، فهو أننا أمة تكتب تاريخها بالممحاة ثم تُقاتل من أجل الدفاع عن البياض. نمحو الحقيقة ونكتب الوهم، ثم نمحو الوهم ونكتب وهماً آخر، ثم نمحو حقيقة أننا محونا، في دوامة من المحو والكتابة حتى لم يبقَ إلاّ ورق أبيض نتوهّم أننا نقرأ فيه تاريخاً مجيداً.
إما أن نعترف بأننا سجناء في مكتبة من الأكاذيب المتوارثة، أو نبقى نحرس الأوهام كحرّاس متاحف لآثار مزيّفة، نعرف أنّها مزيّفة، والزوار يعرفون، لكنّنا نواصل الشرح بحماسة، ونطلب ثمن التذكرة.
نحن، ببساطة قاتلة، الأمة التي تُصدّق أكاذيبها ثم تموت من أجلها. ثم تُورّث الموت والأكاذيب للأجيال القادمة، مع وصيّة بالحفاظ على التراث.
والتراث؟ صفحة سوداء كُتبت بحبر أسود؛ فإما أن نكتب تاريخنا بأيدينا من الصفر... أو نُدفن مع أكاذيبنا إلى الأبد.

8 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي