ثمّة في خريطة التدين الراهنة ما يشبه عمارة شامخة بغير أعمدة؛ مبنى يقف على ركنين ثم ينهار عند أول نسمة سلوكية. ذاك أن الخطاب الإسلامي، منذ عصره الكلاسيكي حتى حداثته المائعة، انشغل بأركان الإيمان القلبية وأركان الإسلام الطقسية؛ بيد أنّه أغفل – أو كاد – ركيزة ثالثة لا يكتمل الدين إلا بها: أركان العمل. أركان لا تُقاس بالاعتقاد ولا تُوزن بالطقس، بل تُترجم في الصدق، والعدل، والأمانة، والرحمة. فإن غابت، تهدّمت البنيان من أساسه.
فإن قيل: أليست هذه مبالغة؟ أليس من يصلي ويصوم متدينًا ولو قصّر في بعض الأخلاق؟ قلنا: نعم، من حيث الحكم الفقهي لا يُكفّر. لكن الحديث هنا ليس عن وجود التدين، بل عن صدقه. فما قيمة صلاة لا تنهى؟ وما جدوى صوم لا يورث عدلًا؟ إن الدين لا يُقاس بالحركات، بل بالأثر.
لسنا هنا بصدد “بدعة سلوكية”، بل نُعيد لمفهوم “مكارم الأخلاق” موقعه الطبيعي: في صلب الدين، لا على أطرافه؛ في عُمقه، لا في زينته. ذاك أن الإسلام جاء ليُتمّم مكارم الأخلاق، لا ليعلّقها على هامش الشعائر. وإذا سألنا: هل الكذب مجرد ذنب؟ أم ناقضٌ لإيمان؟ هل الخيانة مجرد رذيلة؟ أم فأس تهدم أصل الدين؟ فنحن إذًا لا نُجمّل القيم، بل نُقيم بها دينًا أو نهدمه.
كل خلقٍ ركن؛ وليس كل ركن خلقًا. ذاك أن الركن لا يقوم الشيء إلا به.
فإن قيل: الأخلاق ليست من أركان الشريعة بالمعنى الاصطلاحي! قلنا: نحن لا نتحدث عن “الأركان الفقهية”، بل عن “الأركان التكوينية” لصدق التدين. ما لا يُبنى عليه الدين في واقعه، ولو كان قائمًا في صوره الورقية.
الصادق العادل الأمين… لا نقول عنه فاضل فحسب، بل مسلم صادق. أما الكاذب الظالم الخائن، فلا ينقصه خلق، بل يسقط عنه صدق التديّن. وهنا يلوح الفرق الجوهري بين “مستحب لازم” و”ركن قوام”. بين زينة لا يُفَسد الدين بفقدها، وركيزة لا يُبنى الدين بدونها.
ولئن قيل: أهي شروط كمال؟ أم شروط صحة؟ أم قبول؟ قلنا: لا يهم الاسم… بل يهم الأثر. فإن سقطت الأمانة، سقط معها عمود الدين من داخله؛ وإن انعدم الصدق، انطفأ نور الإيمان في القلب؛ ولو طاف صاحبها بالكعبة ألف مرة، ثم خرج يكذب ويظلم، فهو قشرة تدين بلا نواة، لا يُكفر ولكن يُناصح وينظر له كعاصي.
فإن قيل: أليس هذا غلوًا؟ وهل ننفي عن المسلم دينه لمجرد ذنب أخلاقي؟ قلنا: لا ننفي الإسلام، بل نفضح زيفه إذا لبس قناع السلوك النفاقي. الدين لا يُقاس بالشكل، بل بالأثر. المنافقون في القرآن صلّوا وصاموا، ومع ذلك قيل عنهم: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}.
ذاك أن تدينًا بلا عدل ليس تدينًا بل خداع، وإيمانًا بلا صدق ليس إيمانًا بل توهّم. والواقع يشهد: أخطر ما ابتُلي به العالم الإسلامي ليس الإلحاد، بل ملايين يُصلّون ويصومون ويزكون… وهم كذبة، خونة، مرتشون. فمن يصلي ويقسو، ويصوم ويكذب، ويحج ويخون… لا يُقال له: “متدين ناقص”، بل: متدين زائف. أي: مسلم عاصي نسأل له الهدية.
فإن قيل: لكن الإيمان درجات، والمؤمنون يتفاوتون! فكيف نحكم بزيف على من وقع في بعض الذنوب؟ قلنا: لا نسوي بين من يخطئ ويتوب، ومن يُصرّ ويبرّر. الأول ضعيف إيمان، والثاني مُزيّف تديّن. كالفرق بين مريضٍ يطلب العلاج، ومريض يدّعي أنه سليم.
فإن قيل: أليس هذا تشددًا يُنفر؟ قلنا: التيسير في الفقه رحمة، أما التمييع في الأخلاق فهلاك. وهل من تنفير أشد من أن يرى الناس المتدين يكذب ويغش ويخون؟ إن إصلاح صورة الدين لا يكون بتخفيف معاييره، بل بتصحيحها.
فإن قيل: وأين الرحمة والمغفرة في هذا التصور الحاد؟ قلنا: الرحمة لمن اعترف بذنبه وسعى لإصلاحه؛ لا لمن لبّس فساده لباس الدين، وقال: أنا من الصالحين. التوبة مفتوحة، لكن التبرير مغلق. والله غفور رحيم لمن تاب، لكنه شديد العقاب لمن نافق وأصر.
ولنكن صريحين: لا نكفّر العاصي، ولا ننفي الإيمان عن المقصّر. لكن نكذّب صدق تديّنه إن كان منافق السلوك؛ وننقض صلاحه إن خان الأمانة؛ لأن الدين ليس دخول المسجد، بل خروج منه بقلب نظيف.
والصلاة، ليست رياضة بل صك صدق يُصرف في السوق. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تنهاه صلاته، فقد خالف مقصودها، وقلّ نفعها، وضعف أثرها، وكما تقرّرها بداهة الدين.
والمنظومة التي نقترحها ليست أخلاقيات عامّة، بل أركان أخلاقية-سلوكية لا يقوم الدين بدونها: الصدق، العدل، الأمانة، الوفاء، الرحمة، الحياء، الشجاعة، التواضع، الكرم، الإخلاص. ليست رتوشًا، بل معايير تحقق إيماني في ميزان مفهوم الإسلام الحقيقي، لا في عيون الناس. وقد قال رسول الله: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
وكل واحدة منها مؤيدة بنص شرعي قاطع: {كونوا مع الصادقين}، {اعدلوا هو أقرب للتقوى}، {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}… لا بوصفها مستحبات، بل بوصفها أبوابًا للجنة.
وهنا يتسلل السؤال: أهي فرائض؟ الجواب: ليست فروضًا فقهية، بل أركان تصديقية. فما نفع صوم لا يردع كذبًا؟ وما فائدة حج لا يمنع خيانة؟ وما جدوى صلاة لا تصحح ضميرًا؟
إذًا، لا نضيف ركنًا إلى أركان الإيمان والإسلام، بل نُعيد فتح الباب الثالث للتديّن: سلوك. فليُقال عنّا: هؤلاء مؤمنون صادقون، لأنهم صلّوا فصدقوا، وصاموا فعدلوا، ونطقوا فأوفوا.
ذاك هو مشروعنا؛ وسؤالنا لك أيها المتدين: أتصلّي وتكذب؟ أتزكّي وتظلم؟ إذًا… فدينك مسروق، وأنت لا تدري.
وقد قال الغزالي: “الدين الخُلق، والخُلق هو الدين، ومن لا خُلق له لا دين له، وما فائدة كثير من الصلاة والصيام مع سوء الخلق؟”
وهذا لبّ القول: الأخلاق ليست ترفًا، بل جوهر التديّن نفسه.
نهاية التأمل الأول والتمهيدي.