المعلاق على التلفزيون، الصحن الدوار في عتيقة، طوابير الجوازات، و"لون الثلاجة”… لماذا نصرّ أن الماضي كان أرحم بينما الحاضر بين أيدينا؟
جلست البارحة في مقهى بشارع التحلية مع صديق قديم. كان يحتسي كابتشينو سعره أربعون ريالاً – ما يعادل فاتورة كهرباء بيت كامل في نهاية السبعينات – ويقول لي: “زمن الأبيض والأسود كان أجمل”. ضحكت وسألته: أجمل في ماذا؟ في “المعلاق” الذي نعلقه بالتلفزيون لكي تصفى الصورة؟ أم في القناة الثانية الإنجليزية اللي ما أحد يفتحها إلا وقت الصلاة لما يحولون مباراة الهلال والنصر عليها، فنشاهدها بلا صوت غالبًا؟
ثمة وهم متجذر اسمه “زمن البساطة”. لا شك أن الكلمة مغرية، بيد أن بساطتنا القديمة لم تكن إلا ضيق خيارات. أعظم حدث في القناة الأولى كان مصارعة WWF بتعليق إبراهيم الراشد رحمه الله. الناس يصفقون أمام الشاشة بحماس، والمصيبة أن الفعالية كانت مسجلة من سنتين! وعندما ظهرت MBC صار وجه نيكول تنوري أشهر من الأميرة ديانا في عزها. واليوم عندك نتفلكس وآبل تي في وبي إن سبورت، ومع ذلك يحن البعض إلى زمن القناتين.
خذ “الدش”. كان يهتز معه البيت كله إذا تحرك للبحث عن قمر جديد. بالكاد تتهنى بمشاهدة قناة قبل أن يأتي الصحويون بالساكتون ليقنصون الطبق من فوق السطوح وكأنهم يصيدون "دخن" أو "قماري" في الصمان. وإذا فيك خير؟ رح اشتك.
حسبما أرى، ذاكرتنا تعمل مثل مصمم فوتوشوب: تمسح القبح وتُجمل اللقطات المضيئة. نتذكر شارع الوزير وكأنه الشانزليزيه، بينما الحقيقة أنه كان سوقًا للبناطيل الرديئة التي تتقطع قبل وصولنا مطار القاهرة. وشارع العصارات؟ حفريات أكبر من السيارات ومعلمه الوحيد كازينو الرياض. اليوم عندك ممشى المسار الرياضي، مضاء ومهيأ للرياضة، والناس يعدون خطواتهم بالجوال. ومع ذلك هناك من يقسم أن “العصارات أحلى”.
دعونا نستعيد “حديقة منفوحة”. كانت زحمة بسطات ومراجيح تصدر صريرًا مثل أبواب مستشفى مهجور. اليوم عندك بوليفارد الرياض بألعاب نارية ونجوم عالميين، ومع ذلك هناك من يقسم أن منفوخه كانت “جنة”.
ومن النوستالجيا الغريبة: ملاهي مواقف الشميسي، بعدها جاءت ملاهي عتيقة، وكانوا يسوقونها كأنها “ديزني لاند الشرق الأوسط” لمجرد أن عندهم “الصحن الدوار”. أو سينما نادي النصر بشارع الخزان: صالة صغيرة تعد نافذة قديمة على العالم، لكنها تُفتح وتُغلق حسب مزاج الهيئة حتى أقفلوها للأبد. اليوم عندك صالات IMAX وVOX تعرض أحدث الأفلام في وقتها، ومع ذلك تسمع من يترحم على تلك الصالة المتهالكة.
كما لا يخفى عليكم، الماضي لم يكن بسيطًا، بل خانقًا. تذكروا فقط زحمة الجوازات والأحوال والبلديات: طوابير أطول من خط الدمام القديم، ملفات ورقية تتكدس، وموظف يطالعك ببرود ويقول: “تعال بكرة”. اليوم تفتح جوالك وتنجز كل شيء خلال دقائق. ومع ذلك هناك من يصر أن “زمن الطوابير كان أبرك”!
وثمة مشهد لا يُنسى: الهيئة توقفك مع زوجتك في السوق وتسألها: “وش لون ثلاجتكم؟” للتأكد أنها ليست غريبة. اليوم تتمشى في واجهة الرياض مع عائلتك وسط مطاعم عالمية، ولا أحد يسألك عن لون الغسالة. ومع ذلك، هناك من يحن لتلك الأيام.
أجدادنا كانوا أعمق منا. جلسوا في مجالس المربع والشميسي وسلطانة والملز يروون قصص الخوف قبل التوحيد، عن القوافل التي كانت تُنهب، وعن دموعهم يوم وفاة الملك عبدالعزيز. كانوا يعلمون أبناءهم قيمة الوطن ونعمة الأمان. نحن لم ننقل ذلك. أورثنا أبناءنا نكات عن المعلاق والدش وخط البلدة.
من الواضح أن الحنين المبالغ فيه ليس بريئًا. إنه آلية هروب: الذاكرة تصفي الألم وتترك المواقف الطريفة. بدل أن نواجه الحاضر ونبني المستقبل، نلوذ بماضٍ متناقض ونسميه “بسيط”.
دعونا نقارن. البريطاني العجوز في هايد بارك يحكي لشبابه عن الحرب العالمية الثانية: عن القصف والجوع، ثم يخلص إلى درس: “لن نسمح أن يتكرر”. ونحن؟ نحكي عن قصتنا مع الدشوش والصحويين.
متى سنكف عن خداع أنفسنا؟ وإذا أنتم مصرّين أن الماضي أجمل، فهذا مفتاح داتسون 81، دع أبنك يجرب حظه فيه بطريق تركي الأول. أما أنا، فأقدر أرسل لكم معلاق حديد، وتذكرة “خط البلدة”، وبطاقة انتظار من الجوازات.. باكيج زمان أول كاملا. بس لا عاد تصجونا.