يكفي أن يفتح المصري حساباً على منصة إكس حتى ينهار في دقائق هرم من الأوهام استغرق بناؤه سبعين عاماً؛ والحال أنّ المصريين عاشوا عقوداً في غاتو محكم اسمه فيسبوك، يرددون لبعضهم أكاذيب محفوظة عن "أقدم حضارة" و"نصر أكتوبر المجيد"، حتى صدقوا الوهم وصار حقيقة مقدسة. لكن حين دخلوا إكس مؤخراً بكثافة، واصطدموا بالعرب من الخليج إلى المغرب، انكشف الزيف في 280 حرفاً لا ترحم.
دخلوا وهم يحملون أهرامات من الغرور، وخرجوا يحملون أحمال الإحراج. اكتشفوا أن السعوديين والإماراتيين والكويتيين .. وغالب العرب: يعرفون تاريخهم أفضل منهم، بل ويعرفون تاريخ مصر الحقيقي، لا النسخة المزيفة التي باعتها وزارة التربية.
والحال أن فيسبوك كان معبداً فرعونياً رقمياً يتعبّدون فيه لأوهامهم دون إزعاج. صفحات تُمجّد الجيش كأنه جيش الإسكندر، مجموعات تتحدث عن "نصر أكتوبر" كأنه فتح القسطنطينية، منشورات تُصوّر مصر سيدة العالم، وكلما شكّك أحدهم انهالت عليه الشتائم. يُحدّث نفسه بنفسه، يُصدّق كذبه على نفسه، يُقنع نفسه بأنه سليل الفراعنة، بينما الواقع يقول إنه لا يستطيع بناء مترو بدون قرض صيني.
بيد أنّ إكس كان مختلفاً تماماً؛ ذاك أنّ المنصة تجبرك على الاختصار القاتل. 280 حرفاً لا تكفي للمراوغة أو الخطابات الفارغة. المصري الذي اعتاد الصراخ "إحنا أقدم حضارة" وجد نفسه أمام سعودي يرد في سطر: "وماذا أنجزتم في آخر خمسين سنة؟" والمتباهي بـ"حرب أكتوبر المجيدة" وجد إماراتياً يسأله: "إذا انتصرتم، لماذا وقعتم كامب ديفيد بشروط مذلة؟"
معدل الأمية في مصر ستة عشر بالمئة - ستة عشر مليون مصري لا يعرفون القراءة. بين الإناث واحد وعشرون بالمئة، أي واحدة من كل خمس نساء أمّية. في محافظة المنيا تسعة وعشرون بالمئة. كيف تتوقع من شعب ثلثه لا يقرأ أن يُحاور العالم؟ الأمية ليست عدم القراءة فقط، بل عدم التفكير النقدي، عدم التمييز بين الحقيقة والدعاية.
ذاك أن التعليم في مصر، حتى للذين ذهبوا للمدرسة، ليس تعليماً بل حشو دماغ ممنهج. المناهج تُدرس أن مصر في 67 "نكسة" وليست هزيمة، بينما خسرتم سيناء في ستة أيام. تُدرّس أن "نصر أكتوبر" فتح عظيم، بينما انتهى بكامب ديفيد التي جعلتكم أول من اعترف بإسرائيل. تُدرّس أن مصر استعمرت نصف إفريقيا، بينما الحقيقة أنكم كنتم مُستعمَرين دائماً من كل شعوب الأرض. الفرق بين التعليم في الخليج والتعليم في مصر هو الفرق بين بناء العقل وتخريبه.
المفارقة أن المصريين ظنوا فيسبوك هو الإنترنت كله. عاشوا فيه عشرين عاماً، وحين خرجوا اكتشفوا أن العالم الرقمي أوسع من فقاعتهم. اكتشفوا منصات تُحاسبك على كلامك، فيها نقاش حقيقي، وليس "لايكات" من أصدقائك الذين يشاركونك الأوهام. في فيسبوك كان ملكاً على عرش من وهم؛ في إكس، صار متسوّلاً على أبواب الحقيقة.
اكتشفوا أن "نصر أكتوبر" لم يكن سوى معركة انتهت بهزيمة استراتيجية. إسرائيل حاصرت الجيش الثالث ووصلت لمئة كيلومتر من القاهرة. ثم كامب ديفيد، الاستسلام المُقنع: تطبيع كامل مقابل سيناء منزوعة السلاح، أرض بلا سيادة. لكن الإعلام حول الهزيمة لنصر، والاستسلام لبطولة. وصدّقتم، لأنكم لم تسمعوا رواية أخرى.
الفارق بين فيسبوك وإكس فلسفي عميق. فيسبوك يُشجّع "غاتوات" مغلقة تُعزز أوهام بعضها في دائرة مُفرغة. إكس ساحة مفتوحة تُجبرك على الاحتكاك المباشر والدفاع بحجج حقيقية. في فيسبوك تنشر فيديو مفبركاً وتحصل على مليون مشاهدة من دائرتك؛ في إكس يرد عشرون حساباً من عشر جنسيات، كل واحد يسأل: "إذا جيشكم قوي، لماذا اقتصادكم منهار؟"
الصدمة الحضارية نتيجة حتمية لعقود من الانغلاق والإعلام الموجّه والتعليم المُسمّم. عشتم في فقاعة، وحين انفجرت وجدتم أنفسكم عراة. اكتشفتم أن "أقدم حضارة" لا تعني شيئاً إذا كنتم اليوم في الذيل. "نصر أكتوبر" كان أكبر كذبة باعها النظام، وصدّقتموها لأنكم لم تسمعوا غيرها.
والأمر أنكم بدلاً من الاعتراف والإصلاح، عدتم لفيسبوك لتلعنوا إكس والسعوديين. هذا الفرق بين من يتعلّم من الصدمة ومن يهرب منها. اليابانيون بعد هيروشيما قالوا: أخطأنا، وبنوا من الصفر. أنتم بعد كل هزيمة تقولون: العالم يتآمر ضدنا!
ربما حان الوقت لتخرجوا من غاتو الوهم الذي بنيتموه منذ عبد الناصر. لتقرأوا تاريخكم الحقيقي، لا المُزور. لتتوقفوا عن الافتخار بالأهرامات وتبدأوا ببناء مستقبل. لتفهموا أن الحضارة تُقاس بجودة العقول، لا بعمر الحجارة.
على الأرجح، لن يحدث شيء؛ فالمصري سيعود لفيسبوك، سيُغلق الباب، وسيُردّد نفس الأكاذيب، لأن الحقيقة مُؤلمة والوهم مُخدر. وهكذا ستظل مصر غواتيمالا ثانية على النيل: شعب يعيش على ذكريات بناها أجداده، بينما يعجز عن بناء حاضره؛ فحين يصطدم الوهم بالحقيقة، يتحطم في مئتين وثمانين حرفاً.