25 مارس 2025

ألمانيا: قصة أمة تبحث عن هويتها بين جنون العظمة وعقدة الخضوع

تخيل معي للحظة أننا في مقهى صغير في برلين. على الطاولة المجاورة، يجلس عجوز ألماني يشرب قهوته ويتأمل المارة. في عينيه نظرة غريبة، كأنه يرى شبحين: شبح هتلر وشبح ميركل. الأول يصرخ "ألمانيا فوق الجميع!"، والثانية تهمس "نعم سيدي" للعم سام. وبين هذين الشبحين، تتأرجح روح أمة كاملة كبندول ساعة مجنون.

هل تساءلتم يوماً لماذا تتصرف ألمانيا كمراهق يعاني من اضطراب الشخصية المنقسمة؟ لحظة تراها تقف شامخة كفيلسوف يلقي درساً في الأخلاق على أوروبا كلها، ولحظة أخرى تجدها تنحني كنادل مطعم يخشى أن يفقد البقشيش! كأنها تعاني من "متلازمة فاوست" تبيع روحها للشيطان تارة، وتسعى للخلاص بالتوبة النصوح تارة أخرى.

وما يزيد المشهد غرابة أن هذا التأرجح النفسي لم يأتِ من فراغ. ففي الخمسينيات، حين كان العالم يلملم جراحه من الحرب العالمية الثانية، قررت ألمانيا أن تكون "أكثر غربية من الغرب نفسه". تخيلوا معي طالباً فاشلاً يحاول تعويض رسوبه بأن يصبح معلم المادة! هذا بالضبط ما فعلته ألمانيا. لم يكفها أن تكون عضواً عادياً في النادي الغربي، بل أرادت أن تكون "الطالب المثالي" الذي يجلس في الصف الأول ويرفع يده قبل أن يُطرح السؤال!

ولعل هذا السلوك المتناقض يقودنا إلى سؤال جوهري: ما الذي يدفع أمة عظيمة، أنجبت كانط وهيغل ونيتشه، إلى هذا التأرجح المرضي بين "عقدة التفوق" و"عقدة الخضوع"؟ هل هو الخوف من التاريخ؟ أم أنه مجرد "فوبيا الهوية" - ذلك المرض النفسي الذي يصيب الأمم حين تفقد بوصلتها الأخلاقية؟

المشهد الحالي يكشف عمق هذه الأزمة النفسية. فها هي ألمانيا، القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، تتصرف أحياناً كأنها موظف بنك صغير يخشى أن يفقد وظيفته! تراها تستجدي الغاز الروسي تارة، وتركع أمام الضغط الأمريكي تارة أخرى. أليست هذه مفارقة تستحق التأمل؟ كيف لعملاق اقتصادي أن يتصرف كقزم سياسي؟

وتتجلى هذه الازدواجية الصارخة في كل تفاصيل السياسة الألمانية المعاصرة. ففي الصباح، تراهم يلقون محاضرات عن حقوق الإنسان والديمقراطية، وفي المساء يوقعون صفقات أسلحة مع أنظمة لا تعرف من الديمقراطية إلا اسمها! كأنهم يعانون من "متلازمة شخصية الدكتور جيكل والسيد هايد" الخير والشر في جسد واحد!

وحين نحاول فهم هذا السلوك المتناقض، نجد أنفسنا أمام معضلة نفسية معقدة: هل هذا التأرجح حالة مرضية تستدعي العلاج، أم أنه مجرد آلية دفاع نفسية لأمة تحاول التكفير عن ذنوب الماضي؟ في علم النفس، يُسمى هذا بـ"التعويض المفرط" وذاك حين يحاول المريض تعويض شعوره بالذنب من خلال السلوك المعاكس تماماً. وما أشبه ألمانيا اليوم بمريض يحاول أن يثبت للعالم أنه "تعافى" من خلال الإفراط في "الطاعة"!

ولعل المثال الأكثر سخرية في هذا المسرح العبثي هو قصة طالب عبدالمحسن،  "اللاجئ السياسي" الذي منحته ألمانيا حق اللجوء متشدقة بـ"حقوق الإنسان"، رافضة كل طلبات السعودية لاسترداده. وما هي إلا كرة من كرات الزمان حتى انقلب السحر على الساحر، وقرر "ضيفهم الكريم" أن يرد الجميل بطريقته الخاصة: عملية دهس إرهابية جماعية راح ضحيتها المئات بين قتيل وجريح! وكأن التاريخ يسخر من هذه الأمة التي تصر على تكرار نفس الأخطاء: بالأمس احتضنت هتلر حتى احترقت بناره، واليوم تحتضن المتطرفين باسم "حقوق الإنسان" حتى يحرقوا شوارعها! والمضحك المبكي أن الشرطة الألمانية كانت قد تلقت تحذيرات عن تغريداته المتطرفة، لكنها فضلت أن تغمض عينيها - ربما خوفاً من اتهامها بـ"التمييز" - حتى استيقظت على صرخات الضحايا في شوارعها. أليس هذا خير دليل على أن "عقدة الذنب" التاريخية قد أصابت ألمانيا بعمى سياسي مزمن؟

وبين كل هذه التناقضات، تقف ألمانيا كممثل مسرحي محترف عالق بين دورين: دور الزعيم المتسلط، ودور التابع المطيع. وفي هذا المسرح السياسي المأساوي، تضيع الهوية الحقيقية لأمة كان يمكن أن تكون جسراً بين الشرق والغرب، بدلاً من أن تكون مجرد تابع مطيع يحلم بأمجاد الماضي.

وإذا كان لنا أن نختم بسؤال يؤرق الضمير الألماني والعالمي معاً: كيف لأمة تمتلك أحد أقوى اقتصادات العالم، وتباهي بتاريخ فلسفي عريق، أن تظل أسيرة هذا الرقص المجنون بين عقدتي التفوق والدونية؟ وهل سيأتي يوم تدرك فيه أن العظمة الحقيقية لا تكمن في التطرف - سواء في الخضوع أو في التسلط - بل في القدرة على التحرر من عقد الماضي والنظر للمستقبل بعين واثقة لا متعالية، وعقل متزن لا منبطح؟ أم أن مصير هذه الأمة العظيمة أن تظل تتأرجح كالبندول المجنون حتى تسقط في هاوية نسيان الذات؟

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤