20 أغسطس 2025

من دلة جدي إلى فلات وايت بحليب الشوفان

‏رحلة القهوة من رمز للكرم العربي إلى بطاقة دخول لعالم الصفوة المتوهم
‏دخلت قبل أيام أحد المقاهي الفاخرة في شمال الرياض. طلبت قهوة سعودية. نظر إليّ "الباريستا" – هكذا يسمون صبي القهوة اليوم – نظرة استغراب كأني طلبت منه أن يطير. قال: "ما عندنا قهوة سعودية يا عم. عندنا V60، كيميكس، كورتادو، فلات وايت". قلت له: أعطني أي قهوة سوداء. سألني: "تبيها V60 ولا كيميكس ولا إيروبريس؟". شعرت أني في امتحان كيمياء. دفعت سبعة وثلاثين ريالاً مقابل كوب قهوة صغير طعمه كالدواء المر. تذكرت دلة القهوة في بيت جدي، كانت لا تفارق النار، والفناجيل لا تفرغ من الضيوف. قهوة بسيطة صافية تجمع القلوب ولا تفرق الطبقات.
‏عندما نتأمل في رحلة القهوة من الدلة إلى الكيميكس سنفهم كيف تحولنا من شعب يشرب القهوة إلى شعب يعبدها. القهوة لم تعد مشروباً. صارت طقساً. بل ديناً له كهنته ومعابده وطقوسه المقدسة. الباريستا صار كاهناً يمارس شعائر معقدة: يزن الحبوب بالميلليجرام، يقيس درجة الحرارة بالدرجة، يحسب زمن التخمير بالثانية. كل هذا من أجل كوب قهوة واحد.
‏ثمة مشهد يتكرر كل صباح في مقاهي الرياض الفاخرة مثل *Noir* و*Half Million*: شباب وشابات يقفون في طوابير طويلة ينتظرون دورهم في الحصول على "فلات وايت بحليب الشوفان العضوي" أو "سبانيش لاتيه" أو "لاتيه فستق". يدفعون أربعين ريالاً مقابل مشروب لو قدمته لهم في كوب بلاستيكي باسم "قهوة بالحليب" لرفضوه. لكن ضعه في كوب أنيق مكتوب عليه اسم أجنبي يصبح فجأة جواز مرور إلى نادي الصفوة.
‏كيف تحولت القهوة من مشروب شعبي بسيط إلى رمز طبقي؟ في الماضي كانت القهوة تجمع الناس؛ الغني والفقير يشربان من نفس الدلة. اليوم صارت تفرّقهم: هذا يحمل كوباً من *Café ELLE* مكتوباً عليه "لاتيه ورد"، وذاك يكتفي بشاي بريالين في بوفية الحي. القهوة التي كانت رمز الكرم العربي صارت رمز التمايز الطبقي.
‏من حسن حظي أني أدركت زمناً كانت فيه القهوة قهوة. لا تحتاج دكتوراه لتطلبها ولا قرضاً من البنك لتدفع ثمنها. كنا نجلس في المقهى الشعبي نشرب القهوة التركي أو الشاي بالنعناع. نتحدث ونضحك ونلعب البلوت. المقهى كان ملتقى اجتماعياً لا معرضاً للأزياء. اليوم تدخل المقهى فتجد كل واحد غارقاً في لابتوبه. يجلس ساعات طويلة يحتسي رشفة كل نصف ساعة. جاؤوا ليُرَوا لا ليَرَوا. ليصوروا أنفسهم مع الكوب ذي الشعار ثم ينشروه على إنستغرام.
‏بيد أن الأعجب من هذا كله هو اللغة الجديدة التي اخترعوها للقهوة. "نوتة الشوكولاتة"، "لمحة من التوت البري"، "إيحاءات الكراميل". يتحدثون عن القهوة كأنها نبيذ فرنسي عتيق. الحقيقة المرة – مثل قهوتهم – أن معظمهم لا يميز بين قهوة وقهوة. لو قدمت لهم نسكافيه في كوب فاخر وقلت إنها من مزارع البرازيل النادرة لصدقوك وطلبوا كوباً آخر.
‏ما الذي يدفع شاباً يتقاضى خمسة آلاف ريال أن ينفق ألفاً منها على القهوة؟ الجواب بسيط: الانتماء. يريد أن يشعر أنه جزء من النخبة. أن يحمل نفس الكوب الذي يحمله المشاهير. أن يجلس في نفس المكان الذي يجلسون فيه. القهوة هنا ليست مشروباً بل بطاقة دخول لعالم الصفوة المتوهم. وكأن الشباب يقولون: "أدفع ربع راتبي، لكن لا أُحرَم من صورة مع كوب مكتوب عليه Flat White".
‏دعونا من النفاق. لست ضد التطور أو التنوع. من حق الناس أن يشربوا ما يريدون وبالطريقة التي يريدون. لكن عندما تصبح القهوة ديناً، وسيلة للتمايز والاستعراض، فنحن أمام مشكلة ثقافية عميقة. مشكلة مجتمع فقد بوصلته وصار يبحث عن هويته في كوب قهوة.
‏السؤال الذي يحيرني: متى نعود لشرب القهوة لأنها قهوة لا لأنها رمز؟ ومتى نكف عن تحويل كل شيء بسيط إلى طقس معقد؟

4 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي