ثمّة في غزة طفل بلا اسم.
كان له اسم، لكن القنابل أخذته مع أمّه؛ كان له بيت، لكن الصواريخ أخذته مع أبيه؛ كان له حلم، لكن الحرب أخذته مع طفولته. جلست أمامه، فإذا في عينيه تاريخ البشرية كله: قابيل يرفع الحجر على أخيه، نيرون يشعل روما لتُكتب له أسطورة، والطغاة يرقصون على جثث الأبرياء. نظرت إليه، فقال بصوت كأنّه همس الموت: “أكان علي أن أفتح عينيّ لأرى العالم مقبرة؟”
وبالقرب منه، طفلة صغيرة تحمل دمية محترقة، تهدهدها كأنها طفلها، وتغني بصوت مرتعش:
“نامي يا صغيرتي… فالقبر أدفأ من البيت، والتراب ألين من الحضن.”
توقفت مذهولًا، فإذا بها تلتفت إليّ بحكمة تفوق عمرها: “لا تحزن يا عم. نحن تعلّمنا أن نلعب بين القنابل، وأن نغني للموت حتى يخجل من نفسه.”
وبينما كنت أمشي بين الركام، لمحت دائرة صغيرة من الأطفال وقد أشعلوا نارًا ضئيلة، يتدفّأون بها من برد الموت لا من برد الشتاء.
كان أحدهم يروي: “رأيت في حلمي أنني أطير بعيدًا، حيث لا قنابل ولا دخان.”
وقالت طفلة أخرى: “أنا حلمت أن أمي خبزت لنا رغيفًا، وضحكنا كما كنا نضحك من قبل.”
ثم همست أصغرهم، كأنها نسيم في مقبرة: “وأنا حلمت أنني كبرت وصرت معلمة، وعلّمت الأطفال أن الحرب كانت كابوسًا انتهى ولن يعود.”
غزة… طفلٌ بلا اسم، وطفلةٌ بلا حضن، وجوقةٌ من الأحلام المذبوحة. مدينة صُلبت بين سكين الداخل وساطور العدو؛ بين شعاراتٍ أحالت دماءها قربانًا، وذرائعٍ جعلت بيوتها رمادًا. مرآة تكشف أنّ روما أُحرقت لتبني مجدها، أمّا غزة فتُحرَق لتكسر أطفالها. وحين تكتب الإنسانية وصيّتها الأخيرة، ستُسجَّل الحقيقة هكذا: لكم أطفالكم النائمون في أسرّتهم… ولنا أطفالنا النائمون في قبورهم.