15 أغسطس 2025

من قارب النجاة إلى العوامة الفاخرة: كيف باعونا الذهب الحقيقي واشترينا الشعار المستورد


في الأزمات، الذهب يشبه قارب نجاة ثقيل لا يغرق، والبراند يشبه عوامة مطاطية جميلة تنفجر عند أول موجة. كثير من نساء اليوم قايضن القارب بالعوامة، ثم صدّقن أنهن يطفون… لأن الإعلان قال ذلك. وكل ما تحتاجه لتكتشف الخدعة أن تراقب مشهدًا واحدًا: ورثة مجتمعين، وصندوقان على الطاولة.
‏الأول يفيض سبائك وغوايش تصدر تكتكة الميزان كنبض اقتصاد متماسك. الثاني علب مخملية مختومة بأسماء مثل Cartier وHermès وTiffany. الأول أصل يمكن تسييله في أي أزمة، والثاني بقايا استعراض مدفوع الثمن، يفقد أكثر من نصف قيمته بكثير عند أول ميزان لأن ما دُفع فيه لم يكن معدنًا، بل لمعانًا على الغلاف وحروفًا على الفاتورة.
‏هذا التحول لم يحدث لأن الذهب أصبح قبيحًا فجأة أو لأن الماركات فجرت فينا ذوقًا كان نائمًا، بل لأن الذائقة نفسها هُندست. منذ الثمانينات، كما باع الإعلان الدخان للرجال باعتباره رمز الرجولة حتى اكتشفوا أنه سرطان، باع الإعلان للنساء أن البراند هو الرقي وأن الغوايش والرشرش "قروية". فجأة صار معيار التحضر ما تلتقطه كاميرا الإعلان، لا ما يحفظ قيمتك.
‏تحولت الهدايا التي تُقدم للبنت أو الزوجة، أو ما تقتنيه من مالها، من أمان مالي محفوظ في معدن صلب، إلى خاتم Cartier Love أو سوار Tiffany T أو Bvlgari Serpenti، يحمل اسم شركة أجنبية، وقد لا يشكل الذهب أو الألماس فيه أكثر من 10 أو 20% من السعر المدفوع -مثل رشة ملح في قدر ماء مغلي- بينما الباقي ثمن الشعار والتصميم وميزانية الإعلانات. وإذا أعدته للبيع، سُعّر فقط على أساس المعدن القليل الذي يحتويه، لا على أساس الفاتورة التي دفعتها.
‏النتيجة الاقتصادية ثقيلة: الذهب في يد الأفراد حصانة ضد التضخم وتآكل العملة، جرام واحد في درج بيتك يعني قدرة على شراء طعام أو دواء في أي أزمة بلا دين ولا إذلال. أما الماركة المستوردة فهي تصدير مباشر للعملة للخارج مقابل سلعة فاقدة للقيمة الجوهرية، وارتباطك بها يبقيك مستهلكًا أسير الموضة، تشتري كل موسم ما يوافق ما قرره الآخرون عن "الراقي" "والستايل" . هنا يصبح الاستهلاك طقس ولاء لثقافة مستوردة، لا اختيارًا عقلانيًا.
‏ووسط هذا، تتضخم ثقافة الهياط. ترى من تتباهى بخاتم Bvlgari أو شنطة Hermès كما لو كانت وسام شرف، بينما تطلق ضحكتها على امرأة تلبس غوايش ذهب باعتبارها “قروية”. الانقسام صار واضحًا: طبقة مخملية افتراضية تعيش على الاستعراض، وطبقة تحتفظ بالأصل. والمفارقة أن "القروية" هي الوحيدة التي تستطيع تحويل ما في يدها إلى سيولة في ساعة، بينما المخملية تكتشف أن أساورها اللامعة ليست أكثر من إيصال فاخر لقيمة تبخرت.
‏وهذا ليس جديدًا في التاريخ؛ قبل قرنين، أقنع الاستعمار البريطاني الهند أن منسوجاتها الفاخرة "قديمة" ليستبدلها بمنتجات مانشستر الأعلى سعرًا والأقل جودة. لم يكن الهدف تحسين الذوق، بل تفريغ البيوت من مخزونها الثمين وإبقاء السوق معتمدًا على الخارج. واليوم، يتكرر المشهد: نتخلى عن ذهبنا الحقيقي لنشتري ذوقًا مُصدرًا، فيخسر الجيب والمستقبل معًا.
‏في 2005، كان 100 ألف ريال تشتري كمية من غوايش الذهب عيار 22، اليوم نفس المبلغ يساوي 720 ألف ريال. أما سوار Cartier أو خاتم Tiffany اشتريته بـ100 ألف في 2005، فاليوم بالكاد يُباع ب 15 أو 12 ألفًا، لأنك لم تشتر معدنًا بل شعارًا، والشعار لا يُسعر عند الميزان.
‏وعند لحظة توزيع الإرث، يتضح كل شيء: من احتفظ بالذهب سلّم ورثته أصلًا ماليًا يحفظ كرامتهم وقت الشدة، ومن استبدله بالماركة سلّمهم بقايا استعراض فقد بريقه مع أول موسم موضة. ويومها فقط، ستكتشف كثيرات أنهن بعن مستقبل أمانهن المالي مقابل صورة حصلت على 200 إعجاب… واختفت في 24 ساعة، بينما الصائغ ينظر للقطعة الفاخرة ويقول ببرود: “الذهب بالوزن… ما نشتري القصة اللي كانت في الإعلان”، ثم يعيد القطعة لعلبتها كما يطوي شهادة مزورة.

4 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي