في صباح يوم صيفي حار من عام 2024، وجدت نفسي جالسًا في أحد مقاهي الرياض الفاخرة، أتأمل مشهدًا يتكرر يوميًا لكنه لا يفقد قدرته على إثارة الدهشة والتساؤل في نفسي. شابان في العشرينات من عمرهما، أحدهما يرتدي الزي السعودي التقليدي والآخر بملابس عصرية أنيقة، يتجادلان بحرارة حول موضوع شائك يخاله البعيد نقاشًا عن نظرية في فيزياء الكم: هل يجب على المرأة السعودية الالتزام بتغطية الوجه أو الاكتفاء بالحجاب التقليدي المعاصر المحتشم؟ وحين تعمق النقاش بين المفكرين العظيمين تحول إلى نقاش نفيس عن الفارق بين المرأة التي ترتدي العباءة السوداء وتلك التي ترتدي الملونة!
هذا المشهد، بكل تناقضاته وتعقيداته، يجسد ما أسميه "ازدواجية الشخصية الحضارية" التي تميز مجتمعنا السعودي المعاصر. وهنا، لا بد لنا من استحضار مفهوم "موت الإله" الذي طرحه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، لا لنتبناه حرفيًا، بل لنستخدمه كأداة تحليلية لفهم أزمتنا الفكرية والقيمية الراهنة.
نيتشه، في إعلانه عن "موت الإله"، لم يكن يتحدث عن موت حرفي للإله، بل كان يشير إلى انهيار منظومة القيم التقليدية في المجتمع الغربي. وبينما نحن، في العالم الإسلامي، لم نشهد هذا الانهيار بالمعنى الحرفي، إلا أننا نواجه أزمة قيمية عميقة تتجلى في الانفصام بين القيم المعلنة والسلوك الفعلي.
لنتأمل في هذا التناقض: نحن نعيش في جسد حضاري حديث، تحيط به ناطحات السحاب وتغمره التقنيات المتطورة، بينما تظل عقولنا - في كثير من الأحيان - أسيرة أنماط تفكير تنتمي إلى عصور مضت. نريد ثمار المدنية ونتباهى بمظاهرها، لكننا نتردد في تبني جوهرها الفكري والقيمي. وهنا يكمن جوهر أزمتنا: فراغ قيمي ناتج عن تصدع المنظومة التقليدية دون إحلال منظومة جديدة متماسكة محلها.
هذه الازدواجية ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج صراع تاريخي طويل بين ما أسميه "الجمود الفكري" و"المدنية الحقيقية". لو عدنا بالزمن إلى عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، لوجدنا أن مفكرين كرفاعة الطهطاوي ومحمد عبده واجهوا التحدي ذاته: كيف نأخذ من الغرب علومه وتقنياته دون أن نفقد هويتنا وقيمنا؟ وها نحن اليوم، بعد قرنين من الزمان، ما زلنا نصارع السؤال ذاته، ولكن في سياق أكثر تعقيدًا وإلحاحًا وسخافة!
لنضرب مثالًا يوضح عمق هذه الازدواجية في مجتمعنا. قبل سفري، حدثني صديق يعمل أستاذًا في إحدى جامعاتنا المرموقة عن طالب متفوق في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، يطور تطبيقات متقدمة ويشارك في مؤتمرات عالمية. هذا الشاب نفسه، عندما تُثار قضايا اجتماعية كحقوق المرأة أو تدريب النماذج اللغوية على كتب الفلسفة، يتبنى مواقف متشددة لا تتناسب مع عصرنا ولا مع مستواه العلمي. هذا التناقض ليس حالة فردية، بل هو انعكاس لأزمة فكرية أعمق تعيشها مجتمعاتنا.
هذه الحالة تذكرنا بما وصفه نيتشه بـ"الإنسان الأخير"، ذلك الإنسان الذي يعيش في عالم فقد فيه الإيمان معناه العميق، لكنه يتمسك بالطقوس والمظاهر خوفًا من مواجهة الفراغ. في سياقنا، نرى أفرادًا يتبنون أحدث التقنيات ويستفيدون من ثمار الحداثة، لكنهم يرفضون القيم الفكرية والاجتماعية التي أنتجت هذه الحداثة. إنهم يعيشون في حالة من "الإنكار المعرفي"، حيث يرفضون الاعتراف بالتناقض بين نمط حياتهم المادي وأفكارهم التقليدية.
ولنتأمل مثالًا آخر يعمق فهمنا لهذه الأزمة. سمعت قصة في أحد الأحياء الراقية بالرياض، عن رجل أعمال متدين ثري يتباهى بتبرعاته السخية للجمعيات الخيرية. هذا الرجل نفسه معروف بممارساته غير الأخلاقية في عالم الأعمال، من استغلال للعمال إلى كذب على العملاء الكبار الذين كون ثروتهم من ثقتهم. أليس هذا مثالًا صارخًا على الانفصام بين القيم المعلنة والسلوك الفعلي؟ كما يقول المثل العربي: "يداوي الناس وهو عليل".
هذه الازدواجية لا تقتصر على فئة دون أخرى، بل تمتد لتشمل حتى من يُفترض أنهم قدوة في المجتمع. قبل سنوات ضج الإعلام عن إمام مسجد تم ضبطه وهو يختلس من صندوق الصدقات. وعندما ووجه بفعلته، برر الأمر بأنه كان ينوي استخدام المال في "مصارف أكثر استحقاقًا"!
ولاننسى حادثة عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذات الوقت يقبض من وزارة الشؤون الإسلامية -خلسة- راتبه كإمام مسجد، الكثيرون هنا من الشباب قد لا يعلمونها، وملخصها أن "شائن الذكر" كان يرغم خادمته على ممارسة الرذيلة ويهددها لكي لا تخبر زوجته مما اضطر الخادمة المسكينة لتصوير المقطع المخزي ونشره، وانتشر وقتها كانتشار شائعات وفيات كورونا حين داهمتنا دون سابق إنذار!
وعوداً على بدء؛ فمفهوم "موت الإله" لنيتشه، يمكننا من أن فهم هذه الظواهر كأعراض لأزمة قيمية عميقة. فبينما لم نشهد "موت الإله" بالمعنى الغربي، إلا أننا نواجه تصدعًا في منظومتنا القيمية التقليدية. هذا التصدع يخلق فراغًا أخلاقيًا، حيث تفقد القيم قوتها الملزمة، وتصبح مجرد شعارات فارغة. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: ليس في فقدان الإيمان بحد ذاته، بل في فقدان البوصلة الأخلاقية التي توجه السلوك الفردي والجماعي.
إن هذه التناقضات الصارخة تدفعنا إلى التساؤل: كيف يمكننا بناء مجتمع متماسك في ظل هذا الانفصام بين القول والفعل؟ الإجابة، في رأيي، تكمن في ثلاث نقاط رئيسية:
أولًا: إعادة النظر في نظامنا التعليمي. يجب أن يكون التعليم أداة للتفكير النقدي والإبداع، لا مجرد وسيلة لحفظ المعلومات وتكرارها. فالعقل الناقد هو أساس التقدم سابقًا وحاضرًا ولاحقًا. علينا أن ندخل مادة "التفكير النقدي" و"المنطق" كمادتين إلزامية في مناهجنا من الصفوف الأولى، ويتم تعليمهما بجدية من مختصين متمرسين، وأن تعطيا الإهتمام البابغ فلا يكون مصيرها كمبادرة تدريس الوطنية والتي تحولت لحصة راحة واستجمام، وأن نشجع الطلاب على مناقشة القضايا الاجتماعية والأخلاقية بحرية وموضوعية ومنطقية. هذا سيساعد في خلق جيل قادر على التعامل مع التناقضات وحل الإشكاليات الأخلاقية بطريقة أكثر نضجًا.
ثانيًا: فتح باب الحوار الحقيقي في مجتمعنا. ليس الحوار الشكلي الذي نراه في وسائل الإعلام، بل حوارًا عميقًا يتناول القضايا الجوهرية الاجتماعية والنفسية في حياتنا. أو باختصار؛ حوار يبدأ من حيث تنتهي الشعارات الرنانة!
وفي مجال الإعلام، يجب أن نشجع البرامج الحوارية التي تناقش القضايا الاجتماعية بجرأة وموضوعية، دون خوف من الطرح أو التابوهات. هذا الحوار المفتوح سيساعد في كشف التناقضات وفتح الباب لحلول مبتكرة.
ثالثًا: تجديد خطابنا الديني ليتواكب مع روح العصر. يجب أن نركز على الجوهر الأخلاقي للدين، بدلًا من الانشغال بالقشور والمظاهر. يقول بعض المفكرين: "لب الدين هو الأخلاق"، ورسولنا المصطفى يقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق . هذا يتطلب إعادة النظر في طريقة تدريس الدين في مدارسنا وجامعاتنا، والتركيز على القيم الأخلاقية التي تتوافق مع روح الإسلام وجوهره. بهذه الطريقة، يمكننا بناء منظومة قيمية متماسكة تتناسب مع عصرنا دون أن تفقد أصالتها.
ودعوني أعترف لكم بشيء: أنا لست بمنأى عن هذه الازدواجية. فكم من مرة وجدت نفسي أنتقد ظاهرة ما، ثم أكتشف أنني أمارسها بشكل أو بآخر في حياتي الخاصة؛ هذا الاعتراف الذاتي هو بداية الطريق نحو الإصلاح الحقيقي. كما يقول المثل: "من عرف نفسه عرف ربه".
إن ما نواجهه اليوم هو في جوهره صراع بين "الكينونة" و"الصيرورة"، كما يقول بعض الفلاسفة. نحن نريد أن نكون ما كنا عليه، وفي الوقت نفسه نريد أن نصير شيئًا جديدًا. هذا التناقض هو مصدر توترنا الحضاري. ولعل هذا الصراع ليس فريدًا في كوكبنا. ففي اليابان بعد عصر "الميجي"، واجه المجتمع صراعًا مماثلًا بين التقاليد والحداثة. لكن الفرق أن اليابانيين استطاعوا أن يحققوا توازنًا بين الأصالة والمعاصرة. فهل نستطيع أن نتعلم من تجربتهم؟
يقول المثل: "العين بصيرة واليد قصيرة". لكنني أقول: في عصرنا هذا، العين أصبحت بصيرة واليد طويلة، لكن العقل لا يزال قاصرًا. فلنعمل على تطوير عقولنا لتواكب تطور أيدينا وأعيننا.
إن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل. فلنبدأ بأنفسنا، ولنواجه تناقضاتنا بشجاعة. ولنتذكر دائمًا أن "الحضارة ليست ثوبًا نرتديه، بل هي روح نعيشها". فهل نحن مستعدون لهذه المواجهة الصادقة مع الذات؟ وهل نملك الشجاعة لنقول لأنفسنا: "نعم، نحن متناقضون، ولكننا مستعدون للتغيير"؟
إن مفهوم "موت الإله" لنيتشه، في سياقنا الإسلامي، لا يعني موت الإيمان، بل يشير إلى ضرورة إعادة تقييم منظومتنا القيمية بأكملها. علينا أن نتساءل: هل قيمنا المعلنة تتوافق مع سلوكياتنا الفعلية؟ وإذا كان هناك تناقض، فما هو السبيل لتجاوزه؟
لعل الحل يكمن في ما أسميه "إحياء الضمير البشري"، أي استعادة الحس الأخلاقي العميق الذي يتجاوز الشكليات والطقوس. هذا الإحياء لا يتعارض مع الإيمان التقليدي، بل يعمقه ويجعله أكثر ارتباطًا بواقعنا المعاش. إنه دعوة لإعادة اكتشاف جوهر القيم الإسلامية في سياق عصرنا الحديث.
وهنا، دعوني أقترح مفهومًا جديدًا: "الأصالة المتجددة". هذا المفهوم يدعونا إلى الحفاظ على جوهر قيمنا وتراثنا، مع القدرة على تجديدها وتكييفها مع متطلبات العصر. فالأصالة الحقيقية لا تكمن في التقليد الأعمى للماضي، بل في القدرة على استلهام روح التراث لمواجهة تحديات الحاضر.
لنتخيل مجتمعًا سعوديًا يستطيع أن يجمع بين التقدم التكنولوجي والقيم الأخلاقية الأصيلة، مجتمعًا يحترم تراثه دون أن ينغلق على نفسه،
ويتفاعل مع العالم دون أن يفقد هويته. هذا ليس حلمًا بعيد المنال، بل هو ضرورة حتمية لبقائنا وازدهارنا في القرن الحادي والعشرين.
وتذكروا دائمًا: "المجتمع السليم لا يُبنى بالشعارات، بل بالأفعال". فهل نحن مستعدون لمواجهة أنفسنا وإصلاح ما أفسده الزمن من تفكيرنا؟ هل نحن جاهزون لتحمل مسؤولية التغيير، بدءًا من أنفسنا وصولًا إلى مجتمعنا بأكمله؟
إن الطريق طويل وشاق، لكنه الطريق الوحيد نحو مستقبل أفضل. فلنبدأ اليوم، ولنكن نحن التغيير الذي نريد أن نراه في مجتمعنا. ولنتذكر دائمًا أن "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها"، فلنبحث عن الحكمة في تراثنا وفي تجارب الآخرين، ولنصنع منها منارة تهدينا في ظلمات التناقض والازدواجية.
إن مستقبل المملكة العربية السعودية، بل والعالم العربي والإسلامي بأسره، يعتمد على قدرتنا على حل هذه المعادلة الصعبة: كيف نكون أصلاء ومعاصرين في آن واحد. إنها مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة. فلنواجه تحدياتنا بشجاعة وحكمة، ولنصنع مستقبلًا يليق بعراقة ماضينا وطموحات حاضرنا.