الشركة المتحدة" بلا دعم: حين يشتكي الطباخ من الجوع في المطبخ
ثمّة في اعتراف سامح عسكر ما يُشبه أنين المحتضر الذي يُملي وصيته الأخيرة؛ ليس توبةً من ذنب ولا ندامةً على خطيئة، بل اتقاءً لعقاب محتوم ومحاولة مكشوفة لإنقاذ ما تبقى من ماء الوجه أمام رئيس المخابرات المصرية المدعوحسن رشاد، بعد أن حوّلت الصقور السعودية الرقمية المستقلة ساحة تويتر إلى مقبرة للذباب الإلكتروني المصري المنظم. بين النضال والنذالة حرفٌ واحد، وسامح عسكر قطع المسافة بينهما في مقالٍ واحد؛ بين الوطنية والخيانة خطوة، وقد خطاها بقدمين راسختين.
تأمل معي – أيها القارئ – كيف يكتب الخائن تقريره... هل رأيت يومًا من يهاجم خصمه بمدحه؟ هل شهدت ذبابة تُسبّح بحمد الصقر الذي سحقها؟ أنت لا تقرأ مقالاً الآن، بل تُشهَد على خيانة مكتوبة، على وثيقة استسلام يُوقّعها جندي مهزوم بدم رفاقه إلى قائده، وطلب توظيف يُقدّمه موظف فاشل لأعدائه السابقين!
والحال أنّ المقال يُقرأ على ثلاثة مستويات: كتقرير استخباري فاشل لحسن رشاد، وكرسالة غزل مكشوفة للسعوديين، وكصك براءة من فشل ذريع في معركة لجان المتحدة ضد السعوديين. سامح عسكر – هذا الإخواني التائب الذي نزل من مركب المرشد ليصعد مركب المخابرات – يحاول الآن القفز إلى مركب ثالث: السفينة السعودية المنتصرة! فجأة، الذباب الذي كان يسخر منه صار "احترافياً"، ولجان المتحدة التي تباهى ضمنيًا بقيادتها تحوّلت إلى هواة فاشلين! هذه ليست مقالة، بل مذكرة ترقية داخلية؛ سامح لا ينتقد أحداً، بل يسلّم سلاحه، ويطلب من حسن رشاد إعفاءه من التوبيخ وترقيته، وفي نفس الوقت يُغازل السعوديين علّهم يقبلونه في صفوفهم! لعل أحدهما يصيب!
إذ يدّعي الرجل أنه "قاوم اللجان منذ عشرين عاماً"، ينسى أن تويتر نفسه لم يُولد إلا في مارس 2006، وكان -شبه محصور- في أمريكا حتى 2009! فهل كان يُقاوم "الريبلاي" عبر البريد الورقي؟ أم أن "الولي الصالح" في التنظيم الإخواني كان قد أنبأهم في 2005 بنبوءة ظهور "الهاشتاق"، ودرّبهم في سراديب التنظيم على الكوت والبلوك؟ لعلّ الرجل كان يُغرّد على ألواح الطين المسمارية، أو يحارب الذباب الإلكتروني بـ"الشبشب الإلكتروني" في منتديات الخيال العلمي!
بيد أنّ الأكثر دلالة في هذا الاعتراف المُذل هو وصفه للجان السعودية بـ"الاحترافية" مقابل "الهواة" المصريين. انظر كيف يصف اللجان السعودية:
- "احترافية"
- "لا تناقش، بل تضرب بالكوت"
- "100 حساب سعودي يعادل 1000 حساب مصري"
- "يعرفون خوارزميات تويتر"
فهل هذه تحليلات عسكرية؟ أم توصيات توظيف ضمنية؟ هل يكتب عن مايصفه ب "اللجان السعودية"... أم يطلب الانضمام إلى سربه؟ هذا التملّق الفاضح ليس مجرد اعتراف بالهزيمة، بل محاولة يائسة للقفز من السفينة الغارقة والالتحاق بالسفينة المنتصرة! يُذكّرنا هذا بالقواد الذي ينكر وجود بيوت الدعارة وهو يقف على بابها؛ ينكر الفساد وهو غارق فيه حتى أذنيه!
ذاك أنّ سامح يُحاول أن يُبرئ نفسه من الفشل بطريقة ماكرة: يُلقي اللوم على النظام ("اللجان غير مدعومة من الدولة")، ويمدح الخصم ("السعوديون محترفون")، ويُقدّم نفسه كخبير يفهم أسباب الهزيمة. كأنه يقول لحسن رشاد: "لست أنا من فشل، بل النظام الذي لم يدعمني"، وللسعوديين: "أنا أفهمكم وأُقدّر احترافكم، فهل تقبلونني معكم؟" بين البيع والشراء يقف سامح؛ يبيع ماضيه ويشتري مستقبلاً وهمياً.
والحال أنّ الفارق بين البيئتين الرقميتين فارق حضاري عميق يستحق التأمل. فبينما كان السعوديون يؤسسون قلاع المعرفة الرقمية العربية منذ فجر الإنترنت: من منتدى "الساحات" الإماراتي السعودي الرائد إلى "جسد الثقافة" الراقي، ومن "إيلاف" الإخباري إلى "الإقلاع" المنوع، ومن "طوى" الأدبي إلى "دار الندوة" الفكري، ومن "المشاغب" الساخر إلى "سوالف سوفت" التقني، كان نظراؤهم المصريون غارقين في مستنقعات القرصنة الرقمية، يبحثون عن "كراكات" البرامج المسروقة و"باسوردات" شبكات الجيران!
السعوديون دخلوا عصر الإنترنت بسرعات عالية وبنية تحتية متقدمة؛ بينما دخله المصريون بـ"الدايل أب" وانقطاع الكهرباء والسعر الغالي على الغالبية! السعوديون بنوا منصات للحوار الراقي، بينما اكتفى المصريون بمنتديات "تحميل الأفلام" و"فوق ١٨". الفرق شاسع: السعوديون دخلوا الإنترنت كرُوّاد، والمصريون دخلوه كمتطفلين؛ السعوديون كتبوا مستقبلهم بالحوار، والمصريون بحثوا عن روابط تحميل الفيلم الممنوع. الذباب يُوجه، الصقر يختار؛ الذباب يُقاد، الصقر يُلهم.
يلوح هنا تشابه مع معارك الإعلام العربي في الخمسينيات، حين ظنّ عبد الناصر أن "صوت العرب" وحده كفيل بإسقاط الأنظمة. لكن الصراخ في الأثير لا يُغيّر الواقع، والشعارات الجوفاء تتبخر أمام الحقائق. واليوم يُكرر أحفاد "صوت العرب" نفس الخطأ على تويتر، ظانين أن كثرة الحسابات المزيفة تصنع رأياً عاماً! يُذكّرنا هذا أيضاً بفشل آلة الدعاية السوفيتية رغم ضخامتها أمام بضعة أصوات حرة من المنشقين؛ ومن رومانيا تشاوشيسكو إلى عراق صدام، الكذب له عمر افتراضي قصير، والحقيقة لها قوة ذاتية لا تحتاج إلى جيوش من المرتزقة.
أغلب الظنّ أن سامح يعرف كل هذا، لكنه يتظاهر بالغباء ليُبرئ نفسه. فعندما يقول "اللجان المصرية ليست مدعومة من الدولة"، فهو يكذب كذبة مفضوحة! الرجل موظف في "الشركة المتحدة" التابعة للمخابرات، فكيف يدّعي عدم الدعم؟ هذا كمن يعمل في مطبخ ويشتكي من الجوع! إنه يُحاول أن يقول لحسن رشاد: "المشكلة ليست فيّ، بل في قلة الموارد"، وللسعوديين: "لم أكن مدعوماً حقاً، كنت أعمل بإمكانيات محدودة". بين الكذب والكذب يتأرجح؛ كذبة للرئيس وكذبة للعدو!
ولئن كان سامح يُحاول تبرير الفشل بـ"ضعف الدعم الحكومي"، فإنه في الحقيقة يُقدّم شهادة على فساد النظام الذي يخدمه. نظام يسرق حتى من ذبابه الإلكتروني! نظام يُخصص المليارات للقمع، لكنه يبخل على جيشه الرقمي! أم أن الحقيقة أكثر مرارة: أن أموال "الشركة المتحدة" ذهبت إلى جيوب المسؤولين، وبقي الذباب يطنّ بلا وقود؟ الفساد في مصر لا يُبقي شيئاً؛ يأكل الأخضر واليابس، ولا يترك حتى للذباب ما يقتات به!
يلوح في أفق المقال محاولة يائسة لفهم "أسرار" التفوق السعودي. لكن سامح يتعامى عن الحقيقة البسيطة: السعوديون ينتصرون لأنهم أحرار وايسوا لجانًا، لقد وقع في ذات الفه الذي وقعت غيه المثير من وسائل الإعلام الأجنبية التي لا تفهم الجين الوطني السعودي، والمصريون يُهزمون لأنهم عبيد لرئيس اللجنة. السعوديون يُدافعون عن وطن يحبونه، والمصريون يُدافعون عن نظام يحتقرهم ويسرق منهم حتى أجور طنينهم المزعج بالعبارات النابية والثقافة الضحلة التي لا تمثل حقيقة شريحة كبرى من المصريين الطيبين! الصقر السعودي يُغرّد من قناعة ودون توجيه، والذباب المصري يطنّ بـ"تمب الردود الجاهزة"؛ الأول يكتب من عقله وقلبه، والثاني ينسخ من ملفات الإكسل! حتى "فراشات التايم لاين" المصرية تطير حيث تُؤمر، لا حيث تشاء!
والحال أنّ سامح يُقدّم في مقاله – عن غير قصد – شهادة وفاة لنموذج "المقاومة الرقمية" المأجورة. فعندما يعترف بأن "ألف حساب مصري" لا يُؤثّر بقدر "مائة حساب سعودي"، فإنه يُقرّ بحقيقة مُرّة: أن الحرية تهزم العبودية دائماً. لكنه يُحاول تغليف هذا الاعتراف بغلاف تقني: "السعوديون يفهمون الخوارزميات"! كأن المسألة مسألة تقنية وليست مسألة كرامة وحرية! كأن الفرق بين الصدق والكذب يُقاس بالميجابايت!
إذ يُحاول سامح تفسير التفوق السعودي بـ"دراسة السوشيال ميديا في المدارس" 😂😂، يكشف عن محاولته المستميتة لإرضاء الطرفين. للمصريين يقول: "لسنا مقصرين، هم فقط أفضل تدريباً"، وللسعوديين يقول: "أنتم متقدمون حضارياً، نحن نتعلم منكم". إنه نفاق مزدوج يفضح صاحبه أكثر مما يُبرئه! وجهان لعملة واحدة؛ كلاهما زائف!
وهنا لا بُدّ من وقفة إنسانية مطولة: ثمّة في هذه المأساة ما يُحزن النفس ويُدمي القلب بحق. فخلف هذا الذباب الإلكتروني شباب مصري ضائع، أضاعته الأنظمة الفاسدة وحوّلته إلى أدوات رخيصة في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل. شباب كان يمكن أن يكون مُبدعاً ومُنتجاً، كان يمكن أن يبني منتديات كـ"الساحات" و"جسد الثقافة"، لكن الفقر والقهر والحاجة دفعته إلى بيع ضميره بثمن بخس. هؤلاء الشباب ضحايا قبل أن يكونوا جناة؛ ضحايا نظام حوّل الوطن إلى سوق نخاسة، والمواطنين إلى سلع تُباع وتُشترى.
وهنا نصل إلى "معركة الابتزاز" التي يعترف سامح بأنها كانت "هزيمة فاضحة". هذه المعركة التي سُحق فيها الذباب المصري رغم عدده وميزانيته، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. وسامح الآن يُحاول أن يُحوّل الهزيمة إلى فرصة: "نعم هُزمنا، لكنني أفهم لماذا، فهل تقبلونني مستشاراً؟" يُريد أن يبيع خبرته في الفشل! كمن يُقدّم سيرته الذاتية مُتباهياً بعدد المرات التي طُرد فيها!
لعلّ الأكثر إثارة للاشمئزاز هو محاولة سامح الواضحة للتودد للخليجيين عموماً والسعوديين خصوصاً. فهو لا يكتفي بمدح "احترافيتهم"، بل يُقدّم تحليلاً مفصلاً لتفوقهم، كأنه يكتب سيرة ذاتية لوظيفة في إحدى شركاتهم الإعلامية! يُذكّرنا هذا بالعميل المزدوج الذي يبيع أسرار جيشه للعدو أملاً في اللجوء السياسي! بائع يعرض بضاعته الفاسدة؛ خبرة في الفشل وشهادة في الخيانة!
أغلب الظنّ أن سامح سيكتب قريباً مقالاً بعنوان "لماذا أُعجبت بالنموذج السعودي؟" أو "دروس من الصقور الرقمية الخليجية". لكن هيهات! فالصقور الحقيقية تعرف رائحة الخيانة من بعيد، ولا تقبل في أسرابها الغربان المُتنكّرة. "الصقور الرقمية السعودية" لا تستقبل من كانوا يوماً جزءاً من سرب الغربان، خاصة من باع رفاقه في ساعة الهزيمة! الصقور لا تُدرّب الذباب؛ بل تدفنه تحت أقدامها!
بيد أنّ الدرس الأعمق في هذه المأساة الهزلية يتجاوز شخص سامح عسكر. إنه درس في مصير كل من يخون ضميره من أجل لقمة العيش. سامح بدأ إخوانياً متطرفاً، ثم تحوّل إلى ذبابة إلكترونية للمخابرات، والآن يُحاول أن يصبح مستشاراً للخليجيين! رحلة من الخيانة إلى الخيانة، ومن الذل إلى الذل؛ قافلة تسير ولا تصل، لأن وجهتها هي الهاوية ذاتها.
والحقيقة المُرّة التي يُحاول سامح إخفاءها خلف التحليلات التقنية هي أن الهزيمة لم تكن في تويتر، بل في النفوس. الهزيمة حين باعوا ضمائرهم، حين قبلوا أن يكونوا أدوات في يد نظام فاسد، حين فضّلوا الكذب على الصدق والعبودية على الحرية. هُزموا حين اختاروا أن يكونوا ذباباً في مستنقع، بدلاً من أن يكونوا بشراً أحراراً؛ هُزموا حين رضوا بالدنية، وقبلوا المذلة.
هكذا ينتهي عصر الذباب الإلكتروني: لا بمعركة ملحمية، بل بإعلان ذليل من أحد "قادته" الذي باع رفاقه بأبخس الأثمان، وحاول بيع نفسه لأعلى مزايد. والتاريخ – كعادته – لا يرحم الخونة؛ يدفنهم في مزابل النسيان ويمضي. أما الصقور، فستواصل تحليقها في سماء الحرية، غير عابئة بطنين الذباب المحتضر الذي يحلم بأن يصبح يوماً صقراً. وتبقى الحقيقة الأزلية: "من عاش بالخيانة مات بها، ومن حلّق بالحرية خلّد ذكرها".
يا سامح، الصقور لا تُدرّب الذباب، بل تدفنه تحت أقدامها. ومن خان مرة، سيخون ألف مرة. ومن باع ضميره بالأمس، سيبيع وطنه غداً. فابحث عن مستنقع آخر تطنّ فيه، فسماء الصقور ليست لأمثالك؛ سماؤنا للأحرار، ومستنقعاتكم للعبيد!