13 أبريل 2025

الأحفاد لا يضحكون: كيف أصبحت كوميديا عادل إمام لغة أجنبية؟

في مساء عاديّ، أتاحت لي الصدفة أن أشهد التحوّل الثقافيّ العربيّ على نحو صادم. حين عرضت على الشاشة مسرحية "مدرسة المشاغبين"، عيون أبنائي وأبناء إخوتي لم تلمع بالضحك كما كانت تلمع عيوننا. سألوا باستغراب: "ماذا يقصد؟ لماذا يضحكون؟". لقد وقفوا على حافّة النصّ وكأنّهم يتطلّعون إلى قارة غريبة. ذاك المحتوى الذي وحّد العرب في الضحك بات مادة أثرية تحتاج إلى ترجمان.
‏والحال أنّ هذا المشهد الصغير يكشف انقلاباً عميقاً في بنية الثقافة العربيّة، انقلاباً ليس من نوع الانقلابات التي تصخب وتتفجّر، بل من النوع البطيء، الهادئ، الذي يجري تحت الجلد الثقافيّ دون أن تنتبه له النخب المشغولة دائماً بالإيديولوجيا وبالسياسة، كما لو أنّهم يراقبون القمر بينما يتشكّل المدّ تحت أقدامهم. فما كان هامشاً صار مركزاً، وما كان مركزاً تحوّل إلى طرف محتاج إلى الشرح والتفسير.
‏لقد كانت القاهرة، على مدى عقود طويلة، مركز الجاذبيّة الثقافيّة: تنطق فينصت العرب. بأغانيها ومسلسلاتها ونكاتها وإعلاناتها ومسرحياتها وأفلامها، غرست اللهجة المصريّة شأفتها في وعي الأمّة، فبدت لغة عربيّة شعبيّة، عابرة للحدود، منتصرة ومتكاثرة. كان بوسع المصريّ أن يتحدّث لهجته في المغرب الأقصى أو في مدن الخليج فيُفهم تلقائيّاً، فيما كان اليمنيّ أو السودانيّ أو الفلسطينيّ حريصاً على تكييف لهجته، على تمصيرها، إن أراد لنفسه انتشاراً ونجاحاً. كانت مصر للهجات العربيّة كالدولار الأميركيّ للعُملات: قد لا تستطيع استعماله في كلّ مكان، لكنّك مضطر للاحتفاظ بشيء منه في محفظتك.
‏لكنْ هذه المعادلة انقلبت رأساً على عقب. فإذ نشهد اليوم مسلسلات سعوديّة وخليجيّة تتجاوز المليار مشاهدة على اليوتيوب كمسلسل "شباب البومب"، وإذ نرى صنّاع المحتوى الخليجيّين يتصدّرون قوائم المتابعة والتأثير، بات جليّاً أنّ المركز الثقافيّ قد تزحزح. الخليج، الذي كان مستهلكاً للثقافة وللهجة المصريّة، أصبح منتجاً ومصدِّراً للهجة هي الأكثر تداولاً في الإقليم. لقد وقع انقلاب ثقافيّ صامت، شبيه بحركة الألواح التكتونيّة: بطيء لكنْ عميق الأثر، انقلاب يذكّرنا بأنّ الثقافة ليست إمبراطوريّة دائمة، بل دورة تاريخيّة تنبض وتخبو ثمّ تنبض في موضع آخر.
‏بيد أنّ الأمر هنا يتخطّى شأن اللهجة، وإن بقيت اللهجة علامة ظاهرة وواضحة على التحوّل. ذاك أنّ ما نراه يعبّر عن تبدّل بنيويّ في منظومة الإنتاج والتلقّي. لقد باتت اللهجة الخليجيّة البيضاء، تلك القريبة من السعوديّة والكويت والإمارات، هي "لغة السوق"، اللغة المطلوبة من قبل المعلنين وصانعي المحتوى والمنصّات الرقميّة. حتّى المصريّ الذي كان العرب يفهمونه تلقائيّاً بات مدفوعاً لتكييف لهجته، لتهذيبها وتقريبها من "الخليجيّة"، إذا ما أراد الانتشار والتأثير. الأمر يشبه حركة عقارب الساعة: دارت طويلاً في اتّجاه واحد، ثمّ انعكس دورانها، وما كان يطارد مؤشّر الساعة صار مطارَداً.
‏وإذا أردنا فهماً أعمق لهذا التحوّل، فلا بدّ من التوقّف عند عامل الأجيال؛ فهو المفتاح الأهمّ لقراءة المشهد. ذاك أنّ انتقال مركز اللهجة من القاهرة إلى الرياض لم يحدث اعتباطاً، بل جاء متزامناً مع بروز جيلين جديدين: جيل Z (مواليد 1997-2012) وجيل ألفا (مواليد 2013 فصاعداً). وهما جيلان يختلفان جذريّاً في علاقتهما باللغة والهويّة. فأبناء جيل Z نشأوا في مرحلة انتقاليّة، ما زالوا يتذكّرون-بنسبة بسيطة- عصر الفضائيّات والتلفاز التقليديّ بقدر ما يألفون اليوتيوب والسناب شات، هم أشبه بمن عاش بين غرفتين، تعلّم التنفّس بهوائهما معاً. أمّا أبناء جيل ألفا، وهم الأصغر، فهم أوّل من وُلد في عصر المنصّات الرقميّة الخالص، لم يعرفوا عالماً بلا ذكاء اصطناعيّ أو هواتف ذكيّة، وتتشكّل أذواقهم في عالم تحدّده خوارزميّات لا قنوات رسميّة، كمن وُلد في غابة اصطناعيّة وبات يراها هي الطبيعة.
‏ولعلّ "مدرسة المشاغبين" التي لم يضحك لها أبنائي هي مثال ساطع على هذا الانفصال الجيليّ. فأبناء جيل Z ما زالوا يتعرّفون معنا، بقدر من التباطؤ الواضح، إلى مراجع الدراما والكوميديا المصريّة. أمّا جيل ألفا، فلم يعرف عادل إمام أو سعيد صالح أصلاً، ولم تُعطَ له فرصة للتأثّر بهما، لأنّه نشأ في بيئة احتكر فيها المؤثّرون الخليجيّون مساحات تفكيره ووجدانه.
‏لا يمكن، بطبيعة الحال، تجاوز الحقائق الدامغة التي تكمن خلف هذا التحوّل اللغويّ والثقافيّ: فالخليج اليوم يمثّل القوّة الاقتصاديّة الأكثر تأثيراً في المشهد الرقميّ العربيّ. الأرقام هنا تتكلّم بلغة لا لبس فيها: تتجاوز نسبة اختراق الإنترنت في دول الخليج 95%، حيث تصل في السعودية والإمارات إلى 100% من السكان، مقارنةً بحوالي 54% في مصر و68% في المغرب.
كما أن متوسط الدخل الشهري في دول الخليج يفوق نظيره في مصر بأكثر من 25 ضعفًا، مما ينعكس على القدرة الشرائية والإنفاق الرقمي للفرد.، وهي حقيقة لم تغب عن الشركات الكبرى والمعلنين. ذاك أنّ المستهلك الخليجيّ أصبح الهدف الأوّل في استراتيجيّات التسويق الرقميّ، من نايكي إلى أمازون، ومن سامسونج إلى آبل. هذه الشركات الكبرى، وتبعاً لقاعدة "اتبع المال"، باتت تستهدف اللهجة السائدة في بيئة الإنفاق الأعلى، مستقطبةً بذلك المؤثّرين والمحتوى الخليجيّ. والخارطة الديموغرافية الرقمية تكشف الحقيقة بوضوح: فالسعودية، والإمارات، والكويت تتصدر الدول العربية في نسبة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وعدد الحسابات النشطة مقارنة بعدد السكان.
‏لا من حيث العدد الإجمالي، بل من حيث الكثافة الرقمية، وساعات الاستخدام، ومستوى التفاعل، وهي العناصر التي تُعيد تشكيل منطق التأثير الثقافي، لا مجرد الحضور العددي. هكذا تتشكّل خوارزميّات المنصّات الرقميّة على إيقاع السوق الخليجيّة، مفضّلةً اللهجة الخليجيّة البيضاء على سواها، ليس اختياراً مقصوداً، بل انحيازاً للبيانات التي تثبت فعاليّتها في الاستقطاب والتحويل.
‏أمّا الجيل الجديد، فلم ينشأ في بيئة التلفاز المركزيّ، ذاك الذي يصنعه قلة وتشاهده أمّة  تماماً كما لم تعد المطابخ المنزلية مصدراً وحيداً للطعام؛ بل تفكّكت الثقافة إلى "بوفيه مفتوح" يختار منه كلٌّ ما يلائم ذائقته. لقد نشأ هذا الجيل في بيئة رقميّة تتشكّل خرائطها بالخوارزميّات، وتتلوّن خياراتها بالتحديات واللعب، أكثر ممّا تصنعها السياسات الثقافيّة أو المؤسّسات الرسميّة. وما يُقضى معه ست ساعات يوميّاً من تفاعل، على نحو ما يحدث مع صانعي المحتوى، سيكون أكثر تأثيراً من كلّ سياسة لغويّة أو تقليد ثقافيّ.
‏ويُلاحظ هنا أنّ هذا التحوّل لم ينشأ بفعل قرار سياسيّ، ولا عبر الإعلام التقليديّ، بل تشكّل من خلال ما قد نسمّيه "الهيمنة الناعمة": هيمنة التفاعل والجذب وقوة السوق. فلم يكن ممكناً تصوّر أن يقف صناع المحتوى بشتّى أنواعهم أمام تحدّي اللهجة، متسائلين: هل ينبغي لي أن أبقى على لهجتي المحلّيّة أم أطوّعها لتناسب الذائقة الخليجيّة؟ وأن يميل الميزان، في الغالب، نحو الثانية! وهذا أشبه بالرقص على هيكل السفينة الغارقة: يسعى البعض لأن يبقى الراقص الأخير على هيكل سفينة غرقت، فيما يختار آخرون القفز إلى طوق النجاة الجديد.
‏وهنا، قد يستولي على البعض وهمٌ كاذب بأنّ ما حدث جاء نتيجة مؤامرة، أو بفعل التدفّق النفطيّ، أو تفضيل متعمّد من المنصّات. لكنْ ذاك في الأساس تقصير داخليّ، وخصوصاً من الطرف المصريّ: تقصير يتمثّل في انحدار الإنتاج الدراميّ والكوميديّ من حيث الجودة والطرح، وفي ضعف مواكبته للمزاج العام الجديد لدى الجيل الشاب، وفي اعتماده على الحنين بدلاً من الابتكار. ذاك أنّ التناغم مع المتلقّي يستوجب فهماً عميقاً له ورغبة صادقة في مخاطبته، ويستوجب مرونة في تعديل الذات والصوت والشكل الفنّي. وهذا ما افتقدته مصر عموماً في السنوات الأخيرة، كمن يحاول التغريد بلحن الخمسينيّات في عصر الراب والتكنو.
‏ثمّة عناد ظاهر تمارسه الأوساط النقديّة المنغلقة في مواجهة هذا الانزياح الثقافيّ اللغويّ. وهذا العناد ليس بريئاً، فهو يمثّل خوفاً من زوال سلطة تقليديّة ظلّت تحتكر الشرعيّة والتأثير لعقود، كأنّهم حرّاس معبد فارغ، ما زالوا يحملون مشاعل طقوسه فيما الجميع انصرفوا إلى ساحة أخرى. ذاك أنّ ظهور صنّاع محتوى خليجيّين يستقطبون مئات الملايين، كأبو فلة الذي تجاوز 45 مليون مشترك، وبندريتا الذي يبلغ 19 مليون متابع، أو شونج الذي يقارب 18 مليون متابع، ناهيك عن أبو نوح (12 مليون) ونايف حمدان – الذي تخصّص في تبسيط المحتوى الثقافيّ المعقّد – يكشف لحظة ثقافيّة مفصليّة في تاريخنا المعاصر. هذه اللحظة تخبرنا بأنّ هؤلاء الشباب قد رسموا منظوراً جديداً للطرافة العربيّة والتواصل والتعبير، ليس بالانتساب إلى تقليد سابق، بل بتحويل اللهجة الخليجيّة، بكلّ أصالتها وتلقائيّتها، إلى واسطة تعبيريّة تمسك بعصب الجيل الجديد.
‏هكذا جرى الانقلاب المعاصر: المؤثّرون الخليجيّون، ومعهم المبدعون الآخرون في الدراما والسينما والموسيقى، لم ينتظروا اعتماداً من النخب، ولم يطلبوا ختماً رسميّاً من الأكاديميّات المركزيّة. بل ذهبوا رأساً إلى الجمهور، خاطبوه بلهجته، تكلّموا بهوامشه ووجدانه، تلاعبوا بمفرداته، وشكّلوا به معجماً جديداً ما زالت النخب تتجاهله، ليس لضعفه، بل لاتّساع تأثيره وخروجه عن نطاق سيطرتهم الرسميّة.
‏أغلب الظنّ أنّنا أمام ظاهرة أعمق من مجرّد "تغيير في اللهجة"، لأنّنا في صلب تحوّل لتعريف من يتكلّم ومن يُنصِت في العالم العربيّ. والجيل الخليجيّ اليوم ليس جيلاً منعزلاً أو مكتفياً بذاته لغويّاً.
بل هو عالمي ثقافيّاً: يتقن الإنجليزيّة، يعرف مفردات من اليابانيّة (بفضل الأنمي)، يستمع للشيلة السعوديّة، ويتفاعل مع التعليقات المغربيّة والتونسيّة التي تقلد اللهجة الخليجية البيضاء، ويشارك بالإنجليزيّة والعربيّة في منصّات عالميّة. ولعلّ هذا يجعله في موقع أقرب إلى القيادة الثقافيّة، وأبعد عن الاتّباع؛ فقد تراكمت لديه عملات صعبة من مصادر متعدّدة فصار مُجزياً له أن ينشئ بنكه المستقلّ بدلاً من إيداع أمواله في بنوك الآخرين.
‏بلغة أخرى، إنّنا نشهد ولادة خريطة لغويّة جديدة في العالم العربيّ: خريطة لم يعد الخليج فيها يتكلّم لهجته فحسب، بل أصبح يُفهم بها، ويقود بها الذائقة، ويصنع الموجة، ويرسم شكل اللغة العربيّة الحيّة للجيل الجديد. وليس مستبعداً أن نرى، في غير وقت بعيد، المصريّ الذي يتحدّث بلهجته الصرفة في مجلس خليجيّ، وكأنّه المغربيّ حين ينطق بلهجته الكاملة: مفهوم جزئيّاً جدًا... لكنْ خارج التغطية. أشبه بسائق حنطور يعبر طريقاً سريعاً مليئاً بالسيّارات الحديثة؛ فهو ليس ممنوعاً من المرور، لكنّه بالتأكيد خارج إيقاع المشهد.

11 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤