07 أغسطس 2024

التراث الشعبي النجدي: صرخة استغاثة وواجب وطن

 قال أبو الجوهرة انشتاين السعودي غفر الله له ووالديه: لئن كان لكل أمة ما يميزها ويحفظ كيانها، فإن تراثنا الشعبي النجدي لهو درة التاج في موروثنا الثقافي، وصمام الأمان لهويتنا المهددة. وإني - وقد ناهزت الستين - لأرى بعين البصيرة كيف يتآكل هذا التراث يوماً بعد يوم، كأنه جرف هارٍ تنهشه أمواج العولمة وتيارات التغريب.
 ولقد كنت شاهداً على عصرين: عصر كان فيه المركى منبراً للحكمة، ومجمع الشيوخ مدرسة للأجيال، وعصرنا الحاضر الذي أضحى فيه الكثيرون - ولا حول ولا قوة إلا بالله - يستخفون بتراثهم استخفاف السفيه بعقله. أفلا يتدبرون قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ ؟
 خذوا مثلاً الشعر النبطي، ذلك الديوان الحي لأمتنا. كان الشاعر النبطي كما قال العلامة حمد الجاسر"مؤرخ القبيلة وحافظ أنسابها" كما قال نضر الله وجهه: الشعر ديوان العرب، وماوثقه الشعر يفوق ماوثقه القلم. ولعل أبلغ مثال على كلام شيخنا قصيدة حويدي العاصمي في شجاعة الملك عبدالعزيز -برد الله مضجعه- في معركة استرداد الأحساء:
 عز الله انه يا رجاجيل رجال
 يلوي ولا تلوى عليه الحبالي
 حول على حمر الطرابيش بحبال
 مثل السفيه اللي من العقل خالي
 فهذه الأبيات لم تسجل حدثاً تاريخياً فحسب، بل جسدت روح الأمة وعزتها. فأين نحن اليوم من هذه الروح؟ وكيف لنا أن نبني مستقبلاً ونحن ننكر ماضينا؟
 
 أما الأمثال الشعبية النجدية، فهي كنز من الحكمة يكاد يندثر. فقولهم: "اللي ما يعرف الصقر يشويه" ليس مجرد كلمات عابرة، بل هو تجسيد لمبدأ شرعي عظيم، ألا وهو "تنزيل الناس منازلهم" الذي أشار إليه الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين". فكيف نتجاهل هذا الإرث الحكيم ونحن نزعم أننا نسعى للتقدم والرقي؟
 
 ولعل من أهزل القضايا التي حضرت نقاشًا حولها في مجلس جمع شباب من طلبة العلم: مسألة "السامري" وأمثاله من الفنون الشعبية. فبين من يدعو لإحيائها بحجة الحفاظ على الهوية، ومن يحرمها من "اللاكنيون" بدعوى سد الذرائع، ضاع الحق وتاه الناس. والحق الذي لا محيد عنه - كما أشار الإمام ابن حزم في "المحلى" - أن الأصل في مثل هذه الأمور الإباحة ما لم يرد نص صحيح صريح بالتحريم. فلماذا نحرم أنفسنا من تراثنا بفهم قاصر للشريعة السمحة؟
 إن السؤال الذي يؤرقني ليل نهار: كيف السبيل إلى إنقاذ ما تبقى من تراثنا؟ ولا شك أن المسؤولية هنا مشتركة. فعلى المؤسسات الرسمية كدارة الملك عبد العزيز والجمعية السعودية للدراسات الفولكلورية أن تضاعف جهودها في التوثيق والدراسة. وعلى الباحثين أن يسيروا على درب أمثال عبد الكريم الجهيمان وسعد الصويان في جمع التراث وتحليله. بيد أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الأسرة. فكل أب وأم مطالبان اليوم بأن يكونا جسراً بين الماضي والحاضر، ينقلان لأبنائهما عبق التراث وحكمة الأجداد. ألم يقل النبي ﷺ: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"؟ فما أحرانا أن نرعى تراثنا كما نرعى أبناءنا! .  قال أبوالجوهرة: إن تراثنا الشعبي النجدي ليس مجرد ذكريات نجترها، بل هو هويتنا الحية ومستودع قيمنا الأصيلة. وإني لأدعو - بل أصرخ - في وجه كل غيور على أمته: هبوا لإنقاذ ما تبقى من تراثنا قبل فوات الأوان. فلنجعل من حفظ التراث قضيتنا المركزية، ومن إحيائه مشروعنا الحضاري. عسى الله أن يحفظ لنا هويتنا، ويصون لنا كرامتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

4 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤