14 يوليو 2025

التكية المصرية: من وقف شرعي للحرمين... إلى منة قومية على من لا يحتاج

 كيف يمكن لدولة أن تسرق أوقافاً حبسها الأموات على بيت الله، ثم تتفاخر بالسرقة سبعين عاماً؟ كيف تتحول خيانة الأمانة إلى منة إعلامية، والنهب إلى تراث قومي، والجريمة الشرعية إلى بطولة وطنية؟ ثمة في قول الإمام النووي "شرط الواقف كنص الشارع" ما يوضح أن هذه الجريمة هي انتهاك واضح للشرع المطهر لا مجرد سرقة مالية. فالتكية المصرية لم تكن "صدقةً" كما يروج البعض، بل "وقفاً محبوساً لله" - "أمانة حبّستها يد ميت على بيت الله" كما قال الفقهاء. والمنة بها اليوم ليست فخراً، بل ابتزاز معنوي لمن لا يحتاج، بعد "غصب وقفي" موثق بقوانين ما أنزل الله بها من سلطان!
والحال أن أوقاف الحرمين لم تبدأ مع محمد علي، بل سبقتها قرونٌ من العطاء الإسلامي، منذ أن أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضه في خيبر، فكان أول من أرسى سنّة الوقف في الإسلام بفقهٍ مكتمل. ومن هناك، توالت أوقاف الأمة على الحرمين، من الأمويين إلى العباسيين إلى العثمانيين.
وقبل أن تولد التكية المصرية بألف ومائتي سنة، كان الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك قد أنشأ ديواناً خاصاً للحرمين الشريفين! وفي العصر العباسي، أوقف الخليفة المقتدر 80 ألف دينار ذهبي من عقارات بغداد على الحرمين - أضعاف أضعاف ما أوقفته مصر لاحقاً- بل إن أحد الخلفاء العباسيين كان ينفق 100 ألف دينار سنوياً من ريع أوقافه على مكة والمدينة. فأين التكية المصرية من هذا العطاء الذي سبقها بقرون؟
ولعل أنكى من الجميع أن السلطان العثماني، كان يرسل "الصرة السلطانية" كل عام، محملةً بالذهب والهدايا، يحملها المحمل الشامي قبل أن يصل المحمل المصري بأسابيع!
وإذ تمن مصر بتكيتها، فأين هي من السلطان المغربي مولاي إسماعيل الذي أوقف نصف دخل غابات الزيتون في مكناس للحرمين؟ أين هي من نظام حيدر آباد الهندي الذي مول كهرباء المسجد النبوي عام 1936 - قبل أن تكتشف السعودية النفط! - وأرسل مهندساً خاصاً لتركيب المولدات؟ أين هي من السلطان قايتباي الذي أوقف 500 أردب قمح سنوياً استمرت لقرون؟ كل هؤلاء خدموا الحرمين دون أن نسمع منهم كلمة منة واحدة، ودون أن ينشئوا قنوات يوتيوب وبرامج توكشو للتفاخر والمنّة!
ذاك أن التكية المصرية - رغم كل هذا التاريخ - لم تكن سوى حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الأوقاف الإسلامية. نعم، كانت مؤسسةً متكاملةً أسسها محمد علي باشا عام 1822، وأوقف عليها الخديوي محمد سعيد باشا 2877 فداناً في البداية، ثم زادها إلى 4751 فداناً من أجود الأراضي الزراعية المصرية، "موقوفة" بصك شرعي على التكية في مكة والمدينة لإطعام فقراء الحرمين. والفدان - للعلم - يعادل 4200 متر مربع، أي أن الوقف كان يقارب 20 مليون متر مربع من الأرض الخصبة
وكانت التكية عالماً قائماً بذاته: طاحونة تدار بأربع بغال، مطبخ يقدم رغيفين وشربةً وأرزاً ولحماً يومياً، عيادة طبية، مدرسة، مكتبة، حجرات مبيت، بركة ماء. وكان المستفيدون من كل الأجناس - هنود وأفغان ومغاربة وشوام وأفارقة وفقراء "مكة" و"المدينة". المصريون وحدهم كان يسمح لهم بالمبيت الكامل. ولم يرسل رغيف واحد لنجد أو الشرقية أو عسير أو الطائف أو تبوك. فكيف يقال: "أطعمنا السعوديين"؟
وما بين وقف عثمان بن عفان - الذي ما زال حياً في السعودية يباع تمره ويصرف ريعه من حساب بنكي رسمي - وبين التكية المصرية التي سرقت ثم سميت "المبرة"، نعرف من احترم الأمانة ومن خانها. فشرط الواقف في الفقه الإسلامي التزام شرعي، ومن غير شرط الواقف فهو "غاصب" شرعاً. وكما قال العلماء: "من غير شرط الواقف فقد خان أمانةً موصولةً بين الأرض والسماء". فكيف بمن ألغى وصية الميت بقرار إداري؟
لكن الكارثة الكبرى وقعت بقوانين تنقض شرع الله. ففي 1953، صدر القانون 247 الذي نص: "لوزير الأوقاف أن يوجه ريع الوقف إلى ما يراه مناسباً دون التقيد بشرط الواقف". بهذه العبارة الملعونة، ألغيت وصية الميت بقرار وزاري! ثم جاء القانون 152 لسنة 1957 فآلت الأراضي الزراعية الموقوفة إلى "الإصلاح الزراعي". وأي إصلاح يبدأ بنهب 20 مليون متر مربع من أموال الله؟
بيد أن الجريمة لم تقف عند حد التشريع، بل امتدت إلى التزوير والإخفاء. حُجج الوقف الأصلية - تلك الوثائق المقدسة التي خطتها أيدي الواقفين - اختفت من دار الوثائق كأنها لم تكن. بعضها "ضُرب عليه بيد موظف" لا يُعرف اسمه، وبعضها حُرف، وبعضها الآخر تبخر في أدراج البيروقراطية. لم يعد أحد يعرف من متولي الوقف، ولا أين سجلاته، ولا كيف صار مصيره. هكذا تحولت الجريمة من نهب علني إلى طمس ممنهج للأدلة، كالقاتل الذي يرمي سلاح جريمته بالنيل! 
 والأنكى من السرقة هو تحويلها إلى منّة إعلامية. غيروا اسم "التكية المصرية" إلى "المبرة المصرية" عام 1374هـ (1954م)، غُير الاسم لتُغسل الجريمة، كما تُغسل الدماء عن سكين القاتل، لكن رائحة الجريمة تبقى عالقةً في الذاكرة والتاريخ! ومع ذلك، استمر خطاب المنة على وقف مسروق! التكية التي كانت تطعم 400 شخص يومياً - ترتفع إلى 4000 في المواسم - صارت ورقةً دعائيةً لتغطية فشل دولة تستجدي القمح!
وإذ علم الملك عبد العزيز - رحمه الله - باستيلاء الحكومات المصرية على أوقاف الحرمين، لم يشهر بهم دولياً. بل أمر بصمت الكبار بتعويض النقص من المالية السعودية. هكذا تصرف الملوك: يحملون العبء دون منة. أما السارقون، فيحولون جريمتهم إلى بطولة قومية!
لعل الأرقام تفضح النفاق أكثر. ريع أوقاف الحرمين عام 1951 تجاوز 100 ألف جنيه - مليارات بحسابات اليوم- أين هذا الريع؟ صفر. إيرادات هيئة الأوقاف المصرية 3 مليارات جنيه سنوياً، فما نصيب الحرمين؟ صفر آخر! بينما أنفقت السعودية على توسعة الحرمين فقط أكثر من 300 مليار ريال.
لم تُرسل مصر رغيفاً واحداً من ريع الوقف منذ 1953، سبعون عاماً من الصمت المطبق! سبعة عقود والوقف المحبوس على الحرمين يُصرف في كل مكان إلا مكانه الشرعي. ومع ذلك، يخرج علينا من يمّن بتكية ماتت فعلياً قبل أن يولد جده!
ومن العجب أن يمن المدين على الدائن، والمتسول على المحسن! فمصر التي تتلقى من السعودية النفط المجاني، والودائع المليارية، والدعم المفتوح، والاستثمارات المنقذة من الإفلاس، تمن عليها ب "وقف" سرقته! السعودية - التي اختار ملكها لقب "خادم الحرمين الشريفين" لا "جلالة الملك" - تنفق اليوم على بيت الله أضعاف ما أنفقته الأمة منذ الخلافة الراشدة، دون كلمة منة واحدة. فمن الخادم الحقيقي ومن المدعي؟ ومن يطعم من؟
أغلب الظن أن هذه المنّة المصرية تخفي عقدة نقص حضارية عميقة. فالدولة التي كانت حلقةً في سلسلة عطاء إسلامي عالمي، صارت تدعي احتكار الفضل. والحكومة التي سرقت الوقف، تحوله إلى دعاية. والبلد الذي يستجدي القمح يتفاخر بتكية مسروقة! والعجز عن الإنجاز يولد الحاجة للأساطير، كالمفلس الذي يتفاخر بثروة جده المدفونة بالعزبة يسار "الترعه"!
والآن نسأل، أين الـ4751 فداناً - العشرون مليون متر مربع-؟ من يزرعها؟ من يأكل ريعها المقدر بمليارات الجنيهات سنوياً؟ اختفت الحجج من دار الوثائق، وتحولت الأراضي إلى ملكيات خاصة. والدولة التي كانت ترسل القمح للحرمين صارت تستجديه! ولعل ما حلّ بمصر  من خراب، وما حاق بأهلها من مسكنة، وما صار إليه ورثتها من افتقار… نَكالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا. فالله لا يبارك في غصبٍ ولا يرفع من يُحوّل البرّ منّة، ومن الأمانة خيانة. وقد قال الحقّ: فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين.
يلوح أن بعض الأصوات المصرية تحاول تحويل التاريخ لسلاح سياسي رخيص. سمعناهم يقولون: "لولانا لما عشتم"، و"نحن اللي أكلناكم وشربناكم". وكأن الأموات الذين أوقفوا أموالهم لله كانوا ينتظرون أن يتحول وقفهم إلى إهانة للأحياء! 
لكن الأدهى والأمر أنهم يمنّون وهم لا يرون المشهد المخزي لحجاجهم الفقراء اليوم! ففي كل موسم حج، نشاهد المصريين الفقراء - الذين نهبتهم شركات السياحة في مصر - يفترشون ساحات الحرمين كاللاجئين. والأنكى أنهم يعلقون ثيابهم على أعمدة المسجد الحرام، بل وصل الأمر إلى تعليق الملابس الداخلية النسائية في ساحات أقدس بقعة على وجه الأرض! مشهد يندى له جبين كل مسلم غيور، بينما إعلاميو مصر مشغولون بالمنّة "المُتخيلة" على من يستضيف هؤلاء المساكين ويتحمل عبئهم! أليس الأولى أن تصرفوا ريع الوقف المسروق على هؤلاء البائسين، بدل أن تتركوهم يشوهون صورة مصر في أطهر البقاع؟
وإن كانت مصر عاجزةً عن إعادة الوقف لمصرفه الشرعي، أو خائنةً لا تريد، فلتسلمه لهيئة إسلامية دولية مستقلة تحت إشراف المملكة العربية السعودية. هذا إن كان في قلوب حكامها ذرة من خوف الله أو حياء من المسلمين. لكن من يسرق أولاً ويمن ثانياً، هل يُرجى منه حياء؟
ولمصر ثلاثة خيارات لا رابع لها: إما أن تعيد الـ4751 فداناً لمصرفها الشرعي وتبرئ ذمة الأموات، أو تصرف ريعها على حجاجها الفقراء الذين تنهبهم شركات السياحة ثم يأتون عراةً حفاةً يفترشون الحرمين كالمشردين، أو تصمت إلى الأبد. والصمت - في هذه الحالة - أشرف من منّة كاذبة على وقف مسروق.
وللدول الأخرى ذات الأوقاف التاريخية، نصيحة: اصرفوا ريع أوقافكم على حجاجكم الفقراء إبراءً للذمة وخدمةً للحرمين. فالسعودية لا تحتاج مالكم، لكن فقراءكم يحتاجونه. وما أجمل أن يأتي الحاج كريماً مكرماً، لا مفترشاً متسولاً معلقاً ملابسه الداخلية في بيت الله! 
 فالتكية المصرية ليست دليل فضل، بل وثيقة غصب. ولولا سرقتكم لها، لبقيت تطعم زوار الحرمين إلى يوم الدين. لكنكم حولتم البركة لعنةً، والحسنة سيئةً، والوقف نهباً، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ.
ونحن - أهل الحرمين - لن نمن عليكم كما مننتم، ولن نذكركم بما ننفق على ضيوف الرحمن من مليارات. فالكريم لا يحصي عطاءه، والأصيل لا يذكر فضله. لكن دعونا نذكركم: من كان بيته من زجاج، فلا يقذف الناس بحجارة الماضي المسروق! خصوصًا إذا كانت البيوت من الأسمنت المسلح. 
وهكذا تحولت التكية من وقف شرعي إلى سرقة قانونية إلى منة إعلامية. من أمانة عند الله إلى خيانة مركبة. ومن يدري؟ لعل في هذا التحول ما يلخص مسار مصر الحديث: من أم الدنيا التي تطعم، إلى دولة تسرق الوقف ثم تمن به بينما أبناؤها يفترشون الحرمين! حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولكل من يأكل من ريع "أمانة حبستها يد ميت على بيت الله": تذكر أن الواقف مات وأمانته حية تشهد عليك. وأن من يسرق مال الله ثم يمن به، لا ينتظر منه إلا الخزي المضاعف في الدنيا، والحساب المضاعف في الآخرة. فإن كان لا بد من المن، فامنوا على أنفسكم بأنكم توقفتم عن السرقة... وعن ترك حجاجكم يفترشون أقدس البقاع ويعلقون ملابسهم الداخلية فيها! هذا إن توقفتم! 

11 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤