من 1948 إلى كامب ديفيد: كيف ضاعت القضية بالشعارات ثمّة حقيقة مرّة لا يجرؤ أحد على قولها: أكبر من أضرّ بفلسطين لم يكن الاستعمار البريطاني وحده، ولا الحركة الصهيونية وحدها، بل أيضاً الأنظمة العربية "المزايدة- الشعاراتية" التي رفعت شعار «تحرير فلسطين» بينما كانت تدفنها. وفي مقدّمتها وزعامتها دون منازع: مصر. في 1947، كان الفلسطينيون يملكون 93% من أرض فلسطين. الأمم المتحدة اقترحت التقسيم: 55% لليهود و45% للفلسطينيين. الفلسطينيون رفضوا. لكنّ ما حدث بعدها كان كارثة. دخلت الجيوش العربية بقيادة مصر في مايو 1948، رافعة شعارات «رمي اليهود في البحر». الملك فاروق أرسل جيشاً فاسداً. النتيجة؟ هزيمة كاملة. إسرائيل احتلّت 78% من فلسطين بدلاً من 55%. سبعمئة وخمسون ألف فلسطيني طُردوا. لو لم تتدخّل مصر برعونة وفساد سياسي، لكانت الدولة الفلسطينية قائمة على 45% من الأرض. والأهمّ: مصر سيطرت على غزّة ووضعتها تحت إدارتها العسكرية لـ19 عاماً. لم تمنحها استقلالاً، بل أبقتها تحت حكم عسكري مصري. غزّة صارت تحت الإدارة المصرية رسميًا وفعليًا. ثمّ جاء عبد الناصر، صانع الشعارات الأكبر ومدمّر فلسطين الأعظم. في 1956، أمّم القناة فانسحبت القوات الأجنبية تحت ضغط دولي،من أجل تأكيد واقع القطبيةالجديدة، فصوّرها «نصراً». تضخّم أناه. في 1964، أنشأ منظمة التحرير لا لتحرير فلسطين، بل لإخضاعها لسيطرته. لكنّ الكارثة الكبرى جاءت في يونيو 1967. أغلق ناصر مضيق تيران برعونة معلناً: «هذه المرة سندمّر إسرائيل». العالم حذّره. لكنّ غروره كان أكبر. النتيجة؟ هزيمة في ست ساعات. خسرت مصر سيناء كاملة، وغزة، الأرض التي كانت تحت إدارتها لـ19 عاماً. خسرت سوريا الجولان. خسر الأردن الضفة والقدس. بقيّة فلسطين سقطت كلّها تحت الاحتلال. لم يعد هناك شبر واحد حرّ. وغزة، التي كانت مصر مسؤولة عنها، سقطت بسبب عنتريات ناصر. بعد الهزيمة؟ بقي ناصر يلقي الخطابات عن «المؤامرة». أطلق «حرب الاستنزاف» (1967-1970): ثلاث سنوات، آلاف القتلى، ثمّ لا شيء. سيناء وغزّة بقيتا محتلّتين. ماذا استفادت فلسطين؟ صفر. ثمّ جاءت حرب 1973. السادات صوّرها «نصراً»، لكنّها انتهت بحصار مذل للجيش الثالث المصري. في 1979، وقع كامب ديفيد كوثيقة استسلام. مصر استعادت سيناء منقوصة السيادة وخرجت من معادلة القوى نهائياً. وهنا المفارقة: السادات استعاد سيناء منقوصة السيادة ومن غير حتى أم الرشراش، لكنّه لم يستعد غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية. بل تخلّى عنها. الاتفاقية تضمّنت بنداً غامضاً عن «حكم ذاتي»، لم يُنفَّذ. وقّع سلاماً منفرداً، استعاد أرضه، وترك غزة تحت الاحتلال. فهل يلام أهل غزة اليوم حين يتهمون مصر بالخذلان؟ خروج مايسمى أكبر جيش عربي ترك الفلسطينيين عراة. إسرائيل تفرّغت لضربهم في لبنان (1982)، ولتوسيع الاستيطان. منذ 1979، لم تُطلق مصر رصاصة واحدة على إسرائيل. بل صارت ضامناً لأمنها. حين تحاصر إسرائيل غزة، تُغلق مصر رفح. من استفاد؟ مصر استراحت. إسرائيل استراحت من أكبر تهديد. أمّا الفلسطينيون، فتُركوا. لنحسب الخسائر: في 1947، كان الفلسطينيون يملكون 93% وأمامهم دولة على 45%. في 1948، بقي لهم 22% (الضفة أردنية، وغزّة مصرية). في 1967، بعد عنتريات ناصر، خسرت مصر غزّة وخسروا كلّ شيء. في 1979، استعادت مصر سيناء المنقوصة لكنها تخلّت عن غزة. اليوم، لا يسيطرون على أكثر من 18% من الضفة، وغزّة محاصرة، والقدس تُهود. من 93% إلى أقلّ من 20%. من دولة محتملة على 45% إلى لا شيء. ومصر؟ خسرت غزّة، ثمّ استعادت سيناء وتخلّت عن غزّة نهائياً. الدرس؟ الشعارات لا تحرّر فلسطين. «رمي اليهود في البحر»، «زعيم العرب»، «النصر المؤزّر»، كلّها شعارات دفعت فلسطين ثمنها. العنتريات تُدمّر القضايا. لو قُبل التقسيم في 1947، لكانت فلسطين دولة على 45% اليوم. لكنّ الأنظمة المصرية، فضلت الشعارات على الواقعية، والعنتريات على السياسة. والنتيجة؟ فلسطين ضاعت. ليس بسبب إسرائيل وحدها، بل بسبب من ادّعوا أنّهم يحرّرونها. الحقيقة المرّة: لو تُركت فلسطين للفلسطينيين، لو لم تُبقِ مصر غزة تحت حكم عسكري 19 عاماً ثم تخسرها بحماقة ناصر، لكان الوضع أفضل بمئة مرّة. لكنّ المصريين يفضّلون الاحتفال بـ«النصر»، بينما يتجاهلون أنّهم تخلّوا عن غزّة التي كانت مسؤوليتهم. يفضّلون تمجيد ناصر، بينما يتجاهلون أنّه السبب في ضياع فلسطين وخسارة غزّة. يفضّلون الشعارات على الحقائق. وفلسطين؟ دفعت الثمن. وغزّة؟ دفعت الثمن مرّتين: حين أبقتها مصر بلا استقلال، وحين خسرتها ثمّ تخلّت عنها. ولا تزال تدفع. والشاهد المعبر! الدرس باقٍ لمن أراد أن يتعلم: أن الواقعية لا تعني الخيانة، بل آخر أشكال الإخلاص.
5 دقيقة قراءة
الكاتب
اينشتاين السعودي
@SaudiEinestine
مشاركة المقالة عبر
Leaving اينشتاين السعوديYour about to visit the following urlInvalid URL