09 أكتوبر 2025

ثلاثة أجيال والكذبة ما تزال حية: الضربة القاضية

 
ثلاثة أجيال والكذبة ما تزال حية: الضربة القاضية
تلخيص الثلاثية: ثلاث جولات، وهذه الرابعة
في المقال الأول، فضحنا الحقيقة العارية: مصر انتصرت في الإعلام وخسرت في الميدان. الجيش الثالث محاصر، المدفعية الإسرائيلية على بُعد 101 كيلومتر من القاهرة، ثغرة ديرسوار التي يتجاهلونها في كل احتفال.
في المقال الثاني، طرحنا السؤال الذي يخشاه الجميع: لو كان نصراً، لماذا ذهب السادات إلى الكنيست، لا جولدا مائير إلى القاهرة؟ المنتصرون لا يُناشدون السلام في عواصم أعدائهم. المنتصرون لا يستعيدون أراضيهم بسيادة منقوصة. المنتصرون لا يوقّعون معاهدات تُفرغ سيناء من جيوشهم.
في المقال الثالث، كشفنا الجريمة الأكبر: فلسطين دفعت ثمن العنتريات المصرية. غزة — التي كانت تحت الإدارة المصرية 19 عاماً — خسرتها مصر بحماقة ناصر في 1967، ثم تخلّت عنها نهائياً في كامب ديفيد 1979. من 93% فلسطينية في 1947 إلى أقل من 18% اليوم. هذا ثمن الشعارات.
واليوم، في الرابع، نضع الوثائق الدولية كلها على الطاولة. هذه هي الضربة القاضية التي لا مهرب منها.
المشهد الافتتاحي: حين يصبح الوهم مهنة
ثمّة مشهد يتكرّر كل أكتوبر في مدارسنا؛ طالب يُلقي خطبة حماسية عن «العبور العظيم» بينما خلفه خريطة تُظهر سيناء... كانت محتلّة، وحين استُعيدت جاءت منقوصة السيادة تماماً. والمفارقة ليست في الجغرافيا بل في العقل المُستعمَر بالوهم: فالجيل الذي يحتفل بـ«النصر» يعيش في بلاد لم تحصد من ذاك النصر سوى الهزائم المتوالية والإفلاس الحضاري. أليس هذا عبثاً كافياً لنسأل: أيّ نصر هذا الذي لا يُغيّر شيئاً، بل يُديم الفشل ويُكرّس التخلّف؟
يلوح أنّ حرب أكتوبر 1973 صارت مهنة بدوام كامل؛ يعيش منها الإعلاميّون بالخطب المُعلّبة، والمؤرخون الرسميّون بالكتب المُزيّفة، والأنظمة بالشرعيّة الزائفة، والجنرالات المتقاعدون بالذكريات الملفّقة. راتب شهري من المجد الموهوم، وتقاعد مضمون على حساب الحقيقة المدفونة. لكنّ المصانع الدولية — تلك التي لا تعرف المجاملة العربية ولا تتقن النفاق الدبلوماسي — تروي قصّة مختلفة تماماً. قصّة يُحاول إعلامنا الرسميّ دفنها منذ نصف قرن، مستعيناً بكلّ أدوات التزييف المتاحة من الأناشيد الوطنية إلى الأفلام البطولية، ومن المناهج المدرسيّة المُسمّمة إلى الخطاب الدينيّ المُسيّس.
والحال أنّ الكذبة ليست عن حرب وحسب، بل عن كيف نرى أنفسنا — وهذا أخطر.
ثمّة في هذا الإصرار الهستيري على «النصر» ما يتجاوز التاريخ العسكريّ ليصل إلى علم النفس الجمعيّ المريض. ذاك أنّ الوعي المصري — المثقل بالهزائم المتتالية من 1948 إلى 1967، المحمّل بإرث الانكسارات الكارثية، المُثخن بجراح الأنظمة الفاشلة والديكتاتوريات العاجزة — كان يحتاج بيأس لحظة انتصار، حقيقيّة كانت أم موهومة، لا فرق. لم يكن مهمّاً أن يكون الجيش الثالث محاصراً كالفئران في مصيدة قاتلة، ولا أن تكون المدفعيّة الإسرائيليّة على مسافة 101 كيلومتر من القاهرة تستطيع سماع نباح كلابها ليلاً؛ المهمّ الوحيد أنّ «جنودنا الأبطال عبروا»، وأنّ «مصر العظيمة حطّمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر». ولو لبضعة أيام معدودة قبل أن تنقلب الطاولة رأساً على عقب وينقلب النصر إلى حصار مذل.
بيد أنّ هذا الإصرار النفسيّ على الانتصار — وهو مفهوم في سياقه التاريخيّ المرير — تحوّل بمرور الزمن إلى مشروع تزييف ممنهج عابر للأجيال ومُحصّن بالقانون. فما بدأ كـ«تصحيح طارئ للمعنويّات» المنهارة تحوّل بمكر النظام إلى عقيدة وطنية لا تُمسّ ولا تُناقَش، بحيث صار التشكيك في «النصر» خيانة عظمى يُعاقب عليها، والاستعانة بالوثائق الغربيّة الموثّقة عمالة مفضوحة للصهيونية، والمطالبة بالعقلانية والموضوعية العلمية استهزاءً وقحاً بدماء الشهداء المقدّسة.
هكذا، وعلى مدى ثلاثة أجيال كاملة من التزييف المنظّم، نشأ مئات الملايين من العرب - ليس المصريين فحسب - على قصّة ملفّقة من ألفها لياءها، محصّنة بالعاطفة الجيّاشة، محروسة بالرقابة الحديدية الصارمة، ممنوعة من النقد بقوّة القانون أحياناً وبقوّة العرف الاجتماعي والتخويف الأمني دائماً.
ذاك أنّ المسألة ليست عسكريّة بالمعنى الضيّق، بل حضاريّة بامتياز، إنها قصة انتحار جماعي.
إنّها قصّة شعوب كاملة قرّرت — أو أُجبرت — أن تعيش في وهم جماعيّ منظّم ومُموّل ومحمي بالدولة. فالشعوب التي تكذب على نفسها في التاريخ، تكذب حتماً على نفسها في كلّ شيء دون استثناء؛ في السياسة حين تُصوّر الديكتاتور المستبد «قائداً ملهماً وضرورة وطنية»، وفي الاقتصاد حين تُخفي الإفلاس الوطني المدوّي بـ«الإنجازات الباهرة والطفرات النوعية»، وفي التعليم حين تُدرّس الأوهام الرخيصة والخرافات بدل العلوم الحقيقية والمعرفة، وفي الإعلام حين تحوّل الهزيمة العسكرية المذلّة إلى ملحمة بطولية خالدة.
والنتيجة الكارثية؟ مجتمعات عاجزة تماماً عن مواجهة الواقع كما هو، تهرب بجبن من الحاضر المرير إلى الماضي الملفّق المريح، ومن الحقيقة المؤلمة الفاضحة إلى الأسطورة الزائفة المخدّرة.
وإذا تأمّلنا بعمق في البنية النفسية لهذا التزييف المنهجي، نجد آليّة دفاعية نفسية كلاسيكية:
حين يواجه الإنسان معلومة صادمة تهدّد قناعة راسخة تشكّل جزءاً أساسياً من هويته، يحدث ما يُسمّى علمياً «التنافر المعرفي» (Cognitive Dissonance).
لديه خياران لا ثالث لهما: إمّا أن يعيد النظر بشجاعة في قناعته المهتزّة، وإمّا أن يهاجم بضراوة مصدر المعلومة المزعجة.
والعرب — بشكل عام والمصريون بشكل خاص ومأساوي — اختاروا دائماً الطريق الأسهل والأجبن:
الشتيمة الرخيصة بدل التفكير العميق، التخوين الجاهز بدل المراجعة الصادقة، الغضب الأجوف بدل الفحص الموضوعي. من يقول لك «يابن اللبؤة الصهيونية» أو «يا عميل الموساد» لم يكن يردّ على حجة تاريخية موثّقة بالأدلة، بل كان يحمي نفسه المرتعبة من ألم الاعتراف المبرّح بالحقيقة.
بل إنّ التزييف تحوّل بمرور الوقت إلى صناعة وطنية متكاملة بميزانيات ضخمة:
مناهج دراسية مُسمّمة تُلقّن الأطفال الكذبة منذ الصفّ الأول الابتدائي، أفلام سينمائية ضخمة الإنتاج تُمجّد «العبور العظيم» وتتجاهل كلياً «ثغرة ديرسوار» و«حصار الجيش الثالث»، برامج تلفزيونية لا تنتهي تستضيف «خبراء عسكريين متقاعدين» يكرّرون ببغائية السردية الرسمية المُعلّبة، أغانٍ وطنية مُبتذلة تُردّد «يا حبيبتي يا مصر» آلاف المرات بينما تُخفي بعناية حقيقة الحصار والمذلّة، احتفالات رسمية سنوية بميزانيات خيالية لترسيخ «النصر الموهوم» في الوعي الجمعي المُخدّر.
إنّه مشروع هندسة اجتماعية نفسية واسع النطاق، هدفه الأول والأخير ليس تمجيد الماضي، بل إخفاء فشل الحاضر المُخزي وتبرير عجز النظام المستمر.
أغلب الظنّ أنّ السؤال الحقيقي هو: لماذا يصرّون على الكذبة رغم فضيحتها الواضحة؟
الجواب بسيط ومخيف ومدمّر في آن واحد: لأنّ الاعتراف بالحقيقة يعني انهياراً كاملاً لمنظومة الشرعيات المُفبركة.
إذا اعترفنا بصدق أنّ 1973 لم تكن نصراً عسكرياً بأي معيار موضوعي، فهذا يعني بوضوح أنّ النظام المصري كذب على شعبه لخمسين عاماً كاملة.
وإذا اعترفنا بشجاعة أنّ السادات ذهب بنفسه إلى الكنيست يناشد السلام من موقع الضعف لا القوة، فهذا يعني حتماً أنّ كامب ديفيد لم تكن «تتويجاً مجيداً للنصر» بل كانت «إنقاذاً يائساً من الكارثة المحدقة».
وإذا اعترفنا بواقعية أنّ الجيش الثالث (45,000 جندي) كان محاصراً بالكامل وعلى وشك الاستسلام المُذل أو الموت جوعاً، فهذا يعني انهيار أسطورة «الجيش المصري الذي لا يُقهر».
ولهذا تحديداً — ولهذا وحده — يُحارَب بضراوة كل من يقترب ولو قليلاً من الحقيقة.
 الشاذلي — رئيس الأركان نفسه الذي خطّط للعبور — دفع ثمن صدقه الفادح بالنفي القسري والتشهير الإعلامي المنظّم.
المؤرخون المستقلّون الجادّون يُوصفون فوراً بالخونة والعملاء. الباحثون الأكاديميون المحترمون يُمنعون من النشر والتدريس.
والنتيجة الطبيعية: احتكار الدولة المطلق للرواية التاريخية، بحيث لا يُسمح إلا بنسخة واحدة وحيدة، مُعقّمة من الحقائق، مُزيّفة بالكامل، محمية بقوّة القانون والعرف والإعلام الرسمي والتخويف الأمني.
الوثائق الغربية: حين يتحدّث التاريخ بلا مجاملة ولا نفاق
لكنْ دعونا ننتقل الآن من التحليل النفسي والثقافي إلى الوثائق الصلبة الصادمة. فالحقيقة — تلك العنيدة المزعجة التي لا تموت — محفوظة بدقة في أرشيفات عالمية لا تعرف المجاملة العربية ولا تمارس الدبلوماسية العاطفية.
 إليكم بالضبط ما تقوله المؤسسات الغربية الرسمية والأكاديمية والبحثية والإعلامية عن حرب 1973، بالنص الحرفي والترجمة الدقيقة:
أولاً: الوثائق الأمريكية الرسمية — حين تتكلم الدولة الأعظم
1. وزارة الخارجية الأمريكية (U.S. Department of State - مكتب المؤرخ الرسمي)
  • النص الإنجليزي الأصلي: "The 1973 war thus ended in an Israeli victory, but at great cost to the United States."
  • الترجمة العربية: «وهكذا انتهت حرب 1973 بانتصار إسرائيلي، ولكن بتكلفة باهظة على الولايات المتحدة.»
  • الأهمية: تقييم رسمي نهائي قاطع للحكومة الأمريكية، صادر عن أعلى مرجع حكومي لتوثيق السياسة الخارجية الأمريكية. استخدام لفظ Victory صراحةً يجعل الأمر حكماً رسمياً لا مجرد رأي أكاديمي.
2. هنري كيسنجر - وزير الخارجية الأمريكي ومهندس الحرب الدبلوماسي
  • النص: "What Israel gained out of it … is that they won another war, though at heavy cost."
  • الترجمة: «ما حققته إسرائيل من الحرب هو أنها انتصرت في حرب أخرى، وإن كان ذلك بتكلفة باهظة.»
  • الأهمية: كيسنجر نفسه يقرّ أن إسرائيل انتصرت فعلياً، رغم الثمن الباهظ، وأن هذا النصر لم يكن مصادفة بل نتيجة إدارة أمريكية دقيقة.
ثانياً: المؤسسات العسكرية الأمريكية — حين تدرّس الجيوش الحقيقة
3. الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت (West Point)
  • النص: "By mid-October, the Israel Defense Forces had regained the operational initiative and exploited Egyptian rigidity to cross the canal in turn..."
  • الترجمة: «بحلول منتصف أكتوبر، كانت قوات الدفاع الإسرائيلية قد استعادت المبادرة العملياتية واستغلت الجمود المصري التكتيكي لتعبر القناة بدورها...»
  • الأهمية: هذا هو التعريف الأكاديمي العسكري للنصر العملياتي — استعادة المبادرة وفرض الشروط النهائية.
4. الكلية الحربية الأمريكية (U.S. Army War College)
  • العنوان: "The 1973 Arab-Israeli War: The Albatross of Decisive Victory"
  • الترجمة: «الحرب العربية الإسرائيلية 1973: عبء النصر الحاسم»
  • الأهمية: وصف الحرب رسميًا بأنها نصر حاسم (Decisive Victory) يؤكد أن النتيجة النهائية كانت لصالح إسرائيل.
5. قيادة التدريب والعقيدة في الجيش الأمريكي (TRADOC - U.S. Army Training and Doctrine Command)
  • النص الإنجليزي الأصلي: "The IDF's initial setbacks and ultimate victories in the Golan Heights and Sinai …"
  • الترجمة العربية: «انتكاسات الجيش الإسرائيلي الأولية المؤقتة وانتصاراته النهائية الحاسمة في الجولان وسيناء...»
  • الأهمية: مصطلح Ultimate Victories يعني أن النتيجة النهائية في الجبهتين كانت حاسمة لصالح إسرائيل، رغم المفاجأة الأولى المؤقتة.
ثالثاً: المؤسسات البحثية والجامعات الأمريكية والبريطانية — حين يتكلم العلم
6. جامعة ستانفورد - معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية (Stanford FSI)
  • النص: "The three-week conflict … ended with an Israeli victory, shaping inter-state relations for years to come."
  • الترجمة: «الصراع الذي استمر ثلاثة أسابيع انتهى بانتصار إسرائيلي واضح، ما شكّل طبيعة العلاقات الإقليمية بين الدول لسنوات طويلة لاحقة.»
  • الأهمية: تأكيد أكاديمي بأن النتيجة العسكرية كانت انتصاراً إسرائيلياً واضحاً، وأن هذا النصر هو الذي مهّد للسلام لاحقاً.
7. المعهد الملكي للخدمات المتحدة - لندن (RUSI)
  • النص: "Israel was ultimately victorious in every major war it fought."
  • الترجمة: «كانت إسرائيل في نهاية المطاف منتصرة عسكرياً في كل حرب كبرى خاضتها دون استثناء.»
  • الأهمية: إدراج حرب 1973 ضمن الحروب التي انتصرت فيها إسرائيل يعكس إجماعاً غربياً لا جدال فيه.
8. مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية - واشنطن (CSIS)
  • النص: "Israel … won conventional wars in 1948, 1967, and 1973."
  • الترجمة: «لقد انتصرت إسرائيل في الحروب التقليدية أعوام 1948 و1967 و1973 دون استثناء.»
  • الأهمية: وضع حرب 1973 بجانب 1948 و1967 يعني أنها مصنّفة ضمن حروب النصر الإسرائيلي المؤكد تاريخياً.
رابعاً: الصحافة الغربية والمؤرخون المحترمون — حين يكتب الإعلام الحر
9. صحيفة الإندبندنت البريطانية (The Independent - UK)
  • النص: "The Israelis had won the Yom Kippur war."
  • الترجمة: «لقد انتصرت إسرائيل في حرب يوم الغفران.»
  • الأهمية: تأكيد إعلامي واضح ومباشر يعكس الرؤية الغربية المستقرة والمجمع عليها بعد نصف قرن.
10. مجلة تايم الأمريكية (TIME Magazine - 2023)
  • عن المؤرخ أبراهام رابينوفيتش: "The Yom Kippur War was the greatest military victory Israel has ever had."
  • الترجمة: «كانت حرب يوم الغفران أعظم انتصار عسكري حققته إسرائيل على الإطلاق.»
  • الأهمية: يعتبرها المؤرخ أعظم نصر عسكري لإسرائيل عبر تاريخها كله.
11. مايكل أورين - مجلة الأتلانتك الأمريكية (The Atlantic)
  • النص: "The Yom Kippur War ended with an astonishing military victory for Israel, its forces totally surrounding those of Egypt..."
  • الترجمة: «انتهت حرب يوم الغفران بانتصار عسكري مذهل ومُدوٍّ لإسرائيل، حيث أحاطت قواتها تمامًا وبالكامل بقوات مصر...»
  • الأهمية: وصف دقيق للحصار الكامل للجيش الثالث المصري، والمدفعية الإسرائيلية على بُعد 101 كيلومتر فقط من القاهرة.
12. بيني موريس - المؤرخ الإسرائيلي الناقد (مقابلة الجزيرة 2008)
  • النص: "1973 was a great Israeli victory. In Egypt the war is celebrated as a victory. That's dumb."
  • الترجمة: «كانت 1973 انتصاراً إسرائيلياً عظيماً بكل المقاييس. في مصر يُحتفل بها كانتصار. وهذا غباء خالص.»
  • الأهمية: حتى المؤرخون الإسرائيليون المنتقدون يعترفون أنها نصر عسكري لإسرائيل، ويصفون الاحتفال المصري به بأنه غباء سياسي وتاريخي.
ما بعد التوثيق: حين تنطق الحقيقة بصوت عالٍ — ماذا استفدنا من كل هذا؟
الآن، بعد هذا السيل من الوثائق الصلبة الرسمية والعسكرية والأكاديمية والإعلامية، يبقى السؤال الأخطر:
 ماذا استفدنا بالضبط من كل مغامرات مصر العسكرية من 1948 إلى 1973؟
لنحسب الحساب الدقيق بلا عاطفة:
  • 1948: خسرنا 78% من فلسطين بدل 55% المقترحة. النتيجة: النكبة وتشريد 750 ألف فلسطيني.
  • 1956: انسحب الأعداء بضغط دولي لا بقوة السلاح. النتيجة: تضخّم الوهم القومي.
  • 1967: فقدنا سيناء وغزة والجولان والقدس. النتيجة: أسوأ هزيمة في التاريخ الحديث.
  • 1967–1970: حرب الاستنزاف. النتيجة: لا مكاسب تُذكر.
  • 1973: الجيش الثالث محاصر، والسادات يذهب للكنيست. النتيجة: اعتراف بالهزيمة وطلب سلام.
  • 1979 (كامب ديفيد): استعادة سيناء بسيادة منقوصة والتخلّي عن غزة نهائياً.
المحصلة:
  • خمس حروب.
  • عشرات الآلاف من القتلى.
  • مئات المليارات المهدورة.
  • تدمير اقتصادي متكرر.
  • ضياع فلسطين من 93% إلى أقل من 18%.
  • انسحاب نهائي من معادلة القوى الإقليمية.
النتيجة النهائية بعد 31 عاماً من الحروب؟
سلام كان يمكن الحصول عليه عام 1948 دون قطرة دم واحدة.
وسيادة منقوصة على أرض كان يمكن ألا تُحتل أصلاً.
و«نصر» لا يعترف به أحد في العالم سوانا.
بيد أنّ الأفظع — والأكثر إيلاماً — هو ثمن الكذبة على الأجيال.
ثمّة ثمن فادح ومُدمّر لتزييف التاريخ بهذه الطريقة المنهجية. فالأجيال الثلاثة التي تربّت على خرافة «نصر أكتوبر» تعلّمت دروساً كارثية مُدمّرة: أنّ الواقع الموضوعي قابل للتزييف الكامل بالإرادة السياسية، وأنّ الحقيقة العلمية قابلة للتأويل المطّاطي حسب الحاجة والمصلحة، وأنّ الهزيمة العسكرية المذلّة قابلة للتحويل السحري إلى نصر ساحق خالد بمجرّد التصفيق الإعلامي المُنظّم والهتاف الجماهيري المُبرمج. وهذا تحديداً ما كرّس فشل السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام لعقود تالية.
والحال أنّ المجتمعات التي تكذب على نفسها في التاريخ تُصاب حتماً بعمى استراتيجي مُزمن.
إذا كنّا قد «انتصرنا النصر المُبين» في 1973، فلماذا الإصلاح؟ ولماذا مراجعة العقيدة القتالية؟ ولماذا إعادة التفكير في الاستراتيجيات؟ النتيجة: نصف قرن من الدوران في المكان ذاته، بينما تقدّم الآخرون.
ذاك أنّ إسرائيل — رغم «انتصارها» — أجرت مراجعات ذاتية قاسية.
أقالت قادة، غيّرت عقائد، طوّرت سلاحاً واستخبارات، ودرست فشلها بصرامة. أمّا نحن، فاكتفينا بالكرنفال السنوي والقصائد والأفلام.
المقارنة الفاضحة:
  • في ويست بوينت/إسرائيل: يُدرّسون «فقدان ثم استعادة المبادرة»، «ثغرة ديرسوار»، «حصار الجيش الثالث»، ويحلّلون الأخطاء بلا قداسة.
  • في القاهرة والمنطقة: يُدرّسون «العبور»، «التحطيم»، «النصر المُبين»، ويتجاهلون ما بعد 15 أكتوبر.
    النتيجة: من يواجه الحقيقة يتقدّم، ومن يهرب منها يتأخّر.
الاعتراضات الشائعة والردّ المختصر:
1) «لكننا عبرنا القناة وحطّمنا خط بارليف!»
صحيح إنجاز تكتيكي في الأيام الأولى، لا نتيجة استراتيجية نهائية. الحروب تُحسم بمن يفرض شروط وقف النار. إسرائيل عبرت عكسياً، حاصرت الجيش الثالث، ووصلت مدفعيتها إلى 101 كم من القاهرة، ثم فُرضت الشروط.
2) «على الأقل حققنا نصراً سياسياً في كامب ديفيد.»
جدلاً: إن وُجد «نصر سياسي»، فهو استثمار للهزيمة العسكرية لا نفيٌ لها. استُعيدت سيناء بسيادة منقوصة، وتُركت غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية 19 عاماً.
3) «لنفترض أننا انتصرنا عسكرياً فعلاً…»
لو حدث ذلك:
  • لما ذهب السادات إلى الكنيست بل جاءت جولدا مائير إلى القاهرة.
  • لوقّعت إسرائيل من موقع ضعف لا مصر.
  • لاستُعيدت سيناء بسيادة كاملة وغزة أيضاً، ولفُرضت الشروط المصرية لا العكس.
    هذا هو الفارق بين النصر العسكري الحقيقي والنصر الإعلامي الزائف.
4) «التشكيك خيانة وتطبيع.»
الحقيقة ليست خيانة. الاستناد إلى وثائق وزارات خارجية، كليات حربية، مراكز أبحاث وصحافة عالمية منهجيّة علمية لا «تطبيع». التخوين سلاح يحرس الكذبة ويمنع فحصها.
تلخيص منصف يضع الأمور في نصابها:
  • عسكرياً وميدانياً: إسرائيل انتصرت في نهاية المطاف (حصار الجيش الثالث، فرض شروط المفاوضات).
  • سياسياً ودبلوماسياً: مصر استرجعت سيناء بسيادة منقوصة، وخرجت من معادلة القوى، وتخلّت عن غزة نهائياً.
  • حضارياً: طرف اعترف بأخطائه فتقدّم، وطرف أنكَرها فتأخّر.
ومحصلة 1948–1979:
سلامٌ كان ممكناً منذ البدء، سيادة منقوصة على أرضٍ كان يمكن ألا تُحتل، غزة ضاعت وتُركت، فلسطين تقلّصت من 93% إلى أقل من 18%، عشرات الآلاف من القتلى، ومئات المليارات المهدورة، وخروجٌ نهائي من معادلة القوى.
الختام القاتل: من الطالب إلى الحقيقة — دائرة لا تُغلق
نعود إلى المشهد الافتتاحي: طالبٌ يلقي خطبة «العبور العظيم» أمام خريطة سيناء المحتلة. المأساة ليست في الخريطة، بل في عقلٍ أُخضع للوهم.
الفارق بين أمة تنهض وأخرى تسقط ليس في الدبابات فقط، بل في الشجاعة — شجاعة مواجهة الحقيقة.
  • في ويست بوينت: يُدرَّس «الدرس».
  • في القاهرة: يُنشَد «النشيد».
    والفارق بين درسٍ ونشيد هو الفارق بين أمةٍ تبني مستقبلها وأخرى تعيش أسيرة ماضيها الموهوم.
السؤال المصيري: هل سنواصل الكذب على الجيل الرابع والخامس والسادس، أم سنمتلك — متأخّرين — الشجاعة لنقول الحقيقة كاملة؟
الجواب المؤلم: الكذبة صارت مؤسسة: مُموّلة، مُحصّنة، مُقدَّسة؛ والمؤسسات في بلادنا أطول عمراً من الحقائق المزعجة.
وهكذا سنبقى نحتفل بـ«النصر المؤزّر» كل سادس أكتوبر، بينما:
  • الوثائق الغربية بلا استثناء تسجّل الهزيمة العسكرية كما وقعت.
  • والتاريخ الحقيقي محفوظ بهدوء في أرشيفات لا تكذب.
  • والأجيال القادمة تدفع الثمن المركّب لجهلنا المقصود وكذبنا المنظّم وجبننا المزمن.
راهناً، بينما يحتفل الملايين بالوهم، تبقى الحقيقة الصلبة في أرشيفات ويست بوينت ووزارة الخارجية الأمريكية وRUSI وCSIS وستانفورد والأتلانتك وتايم:
إسرائيل هي من انتصرت عسكرياً في حرب أكتوبر 1973 — بالنار والحديد، وبحصار الجيش الثالث، وبالمدفعية على مشارف القاهرة (101 كم)، وبشروط تفاوض مُذلّة، وبذهاب السادات — لا جولدا مائير — إلى الكنيست.
هذه هي الحقيقة. وما عداها كذبٌ وطنيّ مُنظّم.
والكذب — مهما طال — يبقى كذباً.
والحقيقة — مهما وُورِيت — تبقى حقيقة.
وويست بوينت تُدرّس ما حدث فعلاً، لا ما نتمنّى أن يكون قد حدث.
هذا هو الفارق. وهذا هو الدرس. وهذا هو الثمن الباهظ الذي نورِّثه لأبنائنا حين نختار الكذبة المريحة على الحقيقة المؤلمة. 

22 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي