04 أكتوبر 2025

لماذا يغضبون في مصر عندما نفعل ما يفعلون؟

 لنبتعد قليلاً عن زحمة الحياة اليومية ونلقي نظرة على مشهد طريف تكرر أمامنا مراراً. لماذا يغضب من يعملون في بلادنا عندما نطالب بتوطين الوظائف، بينما يطالبون اليوم بنفس الشيء في بلادهم؟ شاهدت اليوم صورة متداولة -مع دعم شعبي شديد- لسيدة مصرية تحمل لافتة تدعو لمقاطعة محلات غير المصريين وترحيل اللاجئين: "ابن بلدك أولى". شعار جميل، وطني، يثير الحماسة، بيد أن المشكلة تكمن في غالب من يرفعونه.
ذاك أن المفارقة عجيبة؛ فقطاعاً واسعًا ممن يطالبون بتوطين الوظائف في مصر واجهونا بالسخرية عندما طالبنا بذات الشيء. بل إن كثيراً منهم كتبوا مقالات وتغريدات وبوستات يصفون فيها إحلال السعودي محل الوافد بالجريمة الاقتصادية والانتحار التنموي والعنصرية المقيتة صد الأشقاء!
عندما نتأمل في هذا التناقض الصارخ، لا نملك إلا أن نبتسم بمرارة. ثمة منطق غريب: ما أطالب به لنفسي جريمة إذا طالبت به أنت. التوطين في مصر حق مشروع، أما في السعودية فهو رجعية وانغلاق. المصري له كل الحق أن يأكل من عرق جبينه أين ماشاء، ويجب أن تكون له الأفضلية باسم العروبة، أما السعودي فعليه أن يكون منفتحاً، يترك بلده مرتعاً لمن يشاء
أتذكر جيداً صديقاً مصرياً كان يعمل لدي لفترة طويلة، كتب مقالاً قبل سنوات يصف فيه التوطين بـ"مؤامرة ضد الكفاءة". كان يردد دائماً أن الوظيفة يجب أن تذهب للأكفأ بغض النظر عن جنسيته. دخلت حسابه بالفيسبوك ناوياً مراسلته والمزاح معه حول الصورة، غير أني فوجئت بأنه يكتب البوستات والريبوستات داعياً لمقاطعة محلات السوريين والسودانيين. اتصلت به مازحاً: ألم تكن تقول إن الكفاءة هي المعيار؟ انحرج وقال: "الظروف تغيرت". أجل، الظروف تغيرت لأنه لم يعد في الطرف المستفيد.
لا شك أن لكل شعب الحق المشروع في توطين الوظائف، هذا حق طبيعي لا جدال فيه. المصريون لهم هذا الحق كاملاً، كما أن السعوديين واليمنيين والسوريين لهم نفس الحق تماماً. لكن المشكلة في ازدواجية المعايير الفاضحة. أن تطالب بشيء لنفسك ثم تنكره على سواك، هذا ما نسميه: حلال علي حرام عليك.
الموقف يتبدل حسب الظرف المعيشي لا المبدأ الأخلاقي. عندما كانت الأمور "مزايدة" خطابية، كان اللاجئون في مصر إخوة يجب استضافتهم. أما حين حصل الواقع فقد تحولوا فجأة إلى عبء يجب التخلص منه. نفس المنطق الذي كنا ندان به في الخليج عندما نتحدث عن ضغط الوافدين. كنا عنصريين متحجرين حينها، أما اليوم فصار الخطاب ذاته وطنية صادقة وغيرة محمودة، طالما أن الكاتب مصري الجنسية!
يجدر بنا أن نطرح السؤال الجوهري: ما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ هل الأمر يتعلق بمبدأ أخلاقي ثابت، أم بمصلحة آنية ووضع اقتصادي متقلب؟ الواضح أن القيم عند كثيرين مطاطية للغاية، تتمدد وتتقلص حسب الحاجة والمزاج.
دعونا من العواطف الرخيصة والشعارات الجوفاء. كل دولة لها الحق الكامل في تنظيم سوق العمل فيها، وإعطاء الأولوية لمواطنيها. لكن الحق نفسه يجب أن يطبق بنفس المنطق على الجميع دون تمييز. إذا كان من حقك المطالبة بتوطين الوظائف في بلدك، فمن حق الآخرين ذلك تماماً دون أن تصفهم بالعنصرية أو الانغلاق.
ما الذي سيحدث لو طبقنا نحن أيضاً نفس المنطق بالمثل؟ ماذا لو قلنا بوضوح: ابن بلدنا أولى، وأغلقنا الباب في وجه الجميع؟ هل سيعجبهم المنطق حينها؟ بالتأكيد لا، بل سيعود فوراً الحديث الممجوج عن العنصرية البغيضة والانغلاق المقيت. ها يجب أن نبالي؟ طبعًا لا.  
المشكلة بنظري هنا هي الكيل بمكيالين متناقضين تماماً. أن تحاسب الآخرين بمعيار صارم، وتحاسب نفسك بمعيار مختلف كلياً، متساهل، براغماتي، يبرر كل شيء. هذا ما يجعل الخطاب كله فارغاً، أجوف، مفضوحاً، وعارياً من أي مصداقية. الناس لم تعد ساذجة، وذاكرة الإنترنت طويلة جداً، وما كتبته بالأمس ضد التوطين في الخليج موجود، محفوظ، موثق، ومتاح للجميع.
يكفي أن نعرف أن المنطق السليم والاتساق صارا سلعة نادرة جداً هذه الأيام. ربما يجدر بنا أن نتذكر مثلاً شعبياً حكيماً ولكن باللهجة المصرية: اللي بيته من زجاج ما يحدفش الناس بالحجر. فإذا كنت أو قريبك ومعيل أسرتك قد عشت أو ما زلت تعيش على أرض غيرك تأكل من خيرها الوفير، فلا تستنكر بوقاحة أن يعيش غيرك على أرضك. وإذا كنت تريد حقاً تطبيق مبدأ ابن البلد أولى، فلا تغضب أبداً عندما يطبقه الآخرون في بلادهم. وأما لأبناء وطني ومسؤوليهم: هل فهمتم الدرس العملي والواقعي من " تناقضات  التجربة المصرية"؟ أم سنبقى نتعامى عن الحقائق كمن يغلق عينيه في وضح النهار؟  الجواب  متروك لكم.

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي