31 أغسطس 2025

الجاهلية التي شوهناها: حين يبدأ الإسلام من الناقص لا من الصفر

 كيف استُخدم مفهوم "الجاهلية" كسلاح أيديولوجي عبر العصور، ولماذا آن الأوان لاستعادة الحقيقة التي أغلقها النص القرآني نفسه
ثمّة قافلةٌ تمشي في صحراءٍ لا تُخيفها الريح؛ تحمل جرّة لغةٍ متينة وخرائط سوقٍ تعرف للكلمة قدرها؛ فالماضي لم يكن جدارًا أسود كما شاءته الخُطب، بل أرضًا فيها عروق ماء وخطايا رمل معًا. تصوير الجاهلية ظلامًا مطلقًا؟ حيلة وعظية. وهم. ليس أكثر. الإسلام لم يبدأ من الصفر، بل من الناقص.
تشويه الماضي لم يكن بريئًا قط. وعظٌ متأخر احتاج تبريرًا، فحوّل أسلافنا إلى «أشباه وحوش» ليحتكر الفضل. سلطة حديثة رفعت شعار «إنقاذكم من جاهليتكم» لتبرر استبدادها. مذهبيات صغيرة وصمت خصومها بالجاهلية. استشراق بارد أحب العربي بدويًا همجيًا، لأنه أسهل في الكتب من أن يكون مواطنًا كاملًا. متطرف معاصر احتاج دمًا، فرفع «جاهلية جديدة». والنتيجة؟ التاريخ صار مطرقة، لا ذاكرة.
النص القرآني نفسه فضح الحيلة: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 26]. ليست الجاهلية جهل كتابة، بل حمية عمياء تفسد حتى الفضائل القائمة: تجعل الكرم مفاخرة، والشجاعة طيشًا، والوفاء عصبيةً عمياء. فجاء الإسلام فنزع السمّ من العروق، وأبقى الدم. مُجددًا: الإسلام لم يبدأ من الصفر، بل من الناقص.
ولم تكن الصورة سوداء كما أرادوها. كان ثمة بذور: حلف الفضول في مكة (≈590م) ميثاق عدل أقره النبي ﷺ لاحقًا. زيد بن عمرو رفض الأصنام، وورقة بن نوفل بحث عن التوحيد. خديجة أدارت تجارة وازنة يتعامل معها وجوه قريش. الخنساء قالت شعرها فهزّت وجدان العرب. هند بنت عتبة دخلت الإسلام بقوة شخصيتها، لا بإنكارها. أكثم بن صيفي آثر الوقاية على الندم. أسواق عكاظ وذي المجاز: برلمانات بلاغة، لا حظائر جمال. المعلقات لم تكن زينة، بل لسانًا قادرًا على حمل مفاهيم كبرى. واللغة نفسها كانت معجزة قبل المعجزة: ستة عشر وزنًا للشعر، آلاف مفردات للسيف وحده، قدرة تجريدية نضجت قرونًا لتكون جاهزة -بتدبير- لحمل نص لا يأتيه الباطل.
وكانت الجزيرة لا تخلو من تعدد ديني: يهود يثرب وخيبر، ومسيحية نجران والحيرة؛ تعدد لم يلغِه الإسلام بل نظّم التعايش معه بعقد، لا بعصبية.
لكن النور لم يكن بلا شوائب. والنبي نفسه حسم المسألة: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق». لم يبعث ليبدأ من الصفر، بل ليهذب الموجود. الجاهلية مرحلة إنسانية لها قيم، والإسلام ارتقى بها. الناقص هنا لم يكن عدمًا، بل قوة بلا بوصلة؛ سيفٌ في يد أعمى، أو فرس أصيل بلا لجام. الحقيقة إذن أوضح من أن تُمحى.
غير أن وراء الضوء ظلالًا لا تُنكر. ذكر البخاري أن للجاهلية أربعة أنماط نكاح: واحد -الأغلب الشائع- أُقر (ولي ومهر وإعلان)، وثلاثة -نادرة- هُدمت: الاستبضاع (أن يطلب الرجل من امرأته أن تضاجع نبيلاً لإنجاب ولد «مميز»)، والرهط (اجتماع عدة رجال على امرأة تختار منهم أبًا لولدها)، والبغايا صاحبات الرايات. وأد البنات؟ وُجد، لكنه لم يكن عرفًا عامًا؛ ارتبط بقبائل معينة وظروف صعبة وفهم خاطئ وتحوط أخرق، ورفضه آخرون. صعصعة بن ناجية (جد الفرزدق) اشتهر بافتداء الموءودات. وقيس بن عاصم بكى على ابنة دفنها. العصبية؟ دماء تسفك لأجل ناقة. مأساة تتحول إلى مهزلة. وكانت للكهانة والعرافة سوقها أيضًا؛ مزاج يخلط الغيب بالقرار، فجاء النص ليقطع هذا الخيط الملتبس.
وهنا تظهر المفارقة. لم يكن وأد محدود في الجزيرة أشد ظلمةً من ساحات الدم في مدنٍ تشرعن فرجة القتال، ولا كانت طبقة الكهنة شرقًا أعدل من سوقٍ يعلو فيه لسان الشاعر حكمًا على الوجدان. ههنا قيم متفرقة تحتاج تهذيبًا، وهناك أنظمة محكمة تُنتج الرذيلة على نحو ممنهج. الفارق أنّ الأول مريضٌ يُعالج، والثاني طبيب زيفٍ يقتل المريض باسم العلاج. عندنا فضائل متفرقة، عندهم رذائل ممنهجة.
فلسفة التحويل واضحة: الكرم صار زكاة ووقفًا، الوفاء صار عهدًا لله وللأمة، حماية الجار صارت قاعدة «لا تَظْلِمُون ولا تُظْلَمُون». الشجاعة صارت نصرة للحق. الولاء الأعمى صار ولاءً للمبدأ. الأسواق والشعر صارت ذاكرة تحفظ الوحي ولسان الأمة.
والحال أنّ الإصلاح لم يأتِ دفعة واحدة. الخمر حُرّم على مراحل حتى القطع. الرق لم يُلغَ بجرة قلم، كان نظامًا عالميًا، ففتح الإسلام أبواب العتق وربطه بالكفارات. الحرب نُظمت بضوابط: «لا تقتلوا النساء والصبيان». صحيفة المدينة (≈622م)؟ عقد مدني لأول مرة يعلو على الدم. من واقع تعددٍ قائم، لا من ورقة بيضاء، صيغت صحيفة المدينة؛ عقد يضبط الملل لا عصبية تطلقها.
هنا وُلد مفهوم الدولة كعقد لا كقبيلة. النص يعلو على الدم، والعقد يسبق السيف.
وهنا يجب أن يُقال: مكة لم تكن فراغًا؛ كانت رحم الرسالة العالمية. مركز تجارة يربط اليمن بالشام، وملتقى ديني يعقد حول البيت. تسيّر قريش رحلتي الشتاء والصيف (سورة قريش)، فتشدّ خيوط التجارة بين اليمن والشام، ويستقيم الاقتصاد على طرق لا تخطئها البصائر. من رحمها خرج النص، ومن سوقها وصل الصوت.
أما اليوم؟ فالتشويه يعود بأقنعة جديدة. سلطة تستبد باسم الإنقاذ. متطرف يكفّر باسم الجاهلية. تعليم يُعقم الهوية من الشعر والأسواق. من سيّد قطب إلى داعش في الموصل، خيط واحد. الهوية بلا تاريخ؛ جلد بلا عظم. التدين بلا عدل؛ جاهلية أخرى. الإصلاح بلا مبدأ؛ وهم في الهواء. ومن يطمس هذه الحقيقة إنما يطمس جذور الأمة ليملك سماءها. من المدرسة إلى المنبر إلى الخندق، ما زالت الجاهلية تعود بأقنعة جديدة.
ذكر هذه الفضائل لا يعني ترخيصًا لما هدمه النص، بل برهانًا أن الإصلاح يبني على واقع لا على فراغ.
لم يولد الإسلام فوق خراب أسود، ولا على أنقاض بشر بلا فضائل. وُلد على أرض فيها خير وشر، فجاء فجمع الأول وشذّب الثاني. أسقط الأصنام وأبقى النخيل، جذوره في الأرض وعهده في السماء. أكرر: الإسلام لم يبدأ من الصفر، بل من الناقص.
ومنذ ذلك اليوم، لم تتوقف القافلة. تعثرت أحيانًا، اعترضتها رمال وأعاصير، لكنّها مضت، تحمل الكلمة والعدل، وتترك وراءها كل جاهلية بأقنعتها القديمة والجديدة. القافلة لم تتوقف، ولن تتوقف.

7 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي