16 يوليو 2025

الجلابية المطرودة والهوية المحطّمة: تشريح انتحار حضاري في مقهى مصري

 آلاف السنوات أنتج خلالها المصريون أرقى أنواع الكتّان في العالم. كتّان مصري كان يكفن به الفراعنة، ويتاجر به الفينيقيون، وتفتخر به روما. 10000 جنيه قد تكلّف جلابية واحدة من صنع جمال غازي في كفر الشيخ. سبعون بالمائة من الأماكن العامة تمنعها. ومقهى واحد في التجمع الخامس يكفي لفضح انتحار حضاري كامل.
ثمّة في سؤال عبدالرحمن بشاري: "لو كنت خليجياً بثوبي، هل كنتم ستمنعوني؟" ما يتجاوز الإهانة الشخصية إلى كشف مرآة محطّمة يرى فيها المصريون أنفسهم مشوّهين منذ قرنين. مرآة كسرها محمد علي عام 1824 حين أنشأ مصنع طرابيش ليستبدل العمامة المصرية بقبعة عثمانية؛ شققتها نساء الخديوي إسماعيل حين استوردن خياطات باريس؛ حطّمها عبد الناصر نهائياً حين ألغى آخر طربوش؛ واليوم يرميها موظف استقبال مصري في وجه مواطن مصري لجريمة واحدة: الإصرار على البقاء مصرياً.
وما عبدالرحمن إلا حلقة في سلسلة طويلة من الطرد الرمزي... من الباب، من البنك، من الجامعة، من الوعي العام.
حين يُصبح الوطن حاجز جمارك ضد أبنائه
تأمّلوا هذه المفارقة التاريخية: في العصر المملوكي، كان السلطان قايتباي يستقبل السفراء بجلبابه المطرّز، وكانت أوروبا تستورد "القماش السلطاني" من مصر. اليوم، حفيد قايتباي يُطرد من مقهى في القاهرة. ما الذي تغيّر؟ لم تتغير الجلابية - تغيّرت العين التي تنظر إليها
في كتابه "الاستشراق"، تحدث إدوارد سعيد عن كيف يرى المستعمَر نفسه بعين المستعمِر. لكن ما نشهده في مصر تجاوز سعيد: نحن نرى أنفسنا بعين أسوأ من عين المستعمر. المستعمر على الأقل كان يحترم "الفولكلور المحلي" لأغراضه الأنثروبولوجية. نحن لا نحترم حتى هذا.
والحال أنّ ما جرى مع عبدالرحمن ليس حادثة معزولة، بل تجلٍّ لما يسميه فوكو "الانضباط الذاتي" حين يستبطن المقهور سلطة قاهره حتى يصبح جلاّد نفسه. فالجلابية التي كانت زي الملوك والعلماء والتجار، تحوّلت في الوعي الجمعي إلى علامة "تخلّف". كيف حدث هذا؟ عبر عملية ممنهجة من إعادة التعريف: السلطة تُعرّف، والإعلام يُرسّخ، والمجتمع يُطبّق. ونحن هنا لا نجلد الناس، بل نعرّي الطبقات التي كُرّست في عقولهم حتى باتوا يحرسون بوابة الخجل في أوطانهم.
الهوية كساحة معركة: من ابن خلدون إلى دار الأوبرا
كتب ابن خلدون: "المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده". لكن ما لم يتوقعه ابن خلدون أن يستمر هذا الولع لأكثر من 70 سنة بعد رحيل "الغالب"! نحن نمارس استعماراً ذاتياً أشد فتكاً من أي استعمار خارجي.
ذاك أنّ موظف الاستقبال لم يحتج لقانون مكتوب؛ يكفي أن يستشعر "الذوق العام" تلك الهيمنة الطبقية المتنكّرة التي تحكم بلا دساتير وتُعدم الهوية بلا محاكمات. إنه يمارس سلطة رمزية مستعارة، يثبت بها أنه "ارتقى" عمّن يشبهه، متماهياً مع عين وهمية تحتقر كل ما هو محلي.
في أيرلندا، مُنع الأطفال من التحدث بالغيلية في المدارس لقرن كامل. اليوم، الغيلية لغة رسمية في الاتحاد الأوروبي. في مصر، نمنع أنفسنا طواعية.
بيد أنّ الأمر يتجاوز الحادثة إلى البنية العميقة؛ فليس من الغريب أن تترسّخ صورة الجلابية في الوعي المصري كرمز للتخلّف، إذا ما تأمّلنا في الخطاب الإعلامي خلال العقدين الأخيرين. ففي برامج تلفزيونية شهيرة، كثيرًا ما يُلمّح إلى أن المظهر "البلدي" غير لائق بالأماكن الراقية. العدو ليس الجلابية، بل من جرّدها من معناها: الإعلام الذي يسخر، والسوق التي تُقصي، وعُقد النخبة التي تحتقر
مصنع الاحتقار: السينما كأداة إبادة ثقافي
والسينما المصرية - أداة "صناعة الرضا" كما وصفها تشومسكي - قضت عقوداً تبرمج الوعي: من فلاح "العتبة الخضراء" المخدوع، إلى شخصيات "البريء" و"الاحتياط واجب" و"المتسول" - جيوش من الصعايدة والفلاحين يُضحك عليهم في كل فيلم- النتيجة؟ الاستلاب الطوعي - لا تحتاج لقمع مباشر، بل تجعل المقموع يحتقر نفسه بإرادته.
تذكّروا: في بعض الأفلام القديمة، البطل يرتدي الجلابية بأناقة في أدوار البيه والباشا أو صلاح السعدني في مسلسل "ليالي الحلمية". في أفلام اليوم، الجلابية = البلطجي أو البواب أو "الغلبان". خمسون عاماً من البرمجة المنهجية حوّلت رمز الأناقة إلى وصمة عار.
في مصر، الجلابية تُعامل كأنها جريمة... والبدلة كأنها عفو رئاسي.
الفصام الحضاري: ثوب بمائة دولار ضد جلابية بألفين دولار
يلوح أن دريدا كان نبوياً في تفكيك ثنائية "حديث/تقليدي". فالجلابية الفاخرة - الملائمة للمناخ، المصنوعة من قطن مصري عريق، التي قد تكلف خمسة آلاف جنيه أو أكثر - تُصنّف "متخلفة"، بينما البدلة الأوروبية المصممة لطقس بارد "متحضرة". من قرر هذا؟ ليس قانوناً ولا منطقاً، بل خطاب استعماري استبطنّاه حتى صار جزءاً من "الذوق العام".
والمفارقة المُرّة: الثوب السعودي - وهو مشابه لمنظر الجلابية - يُستقبل بحفاوة في نفس الأماكن التي تطرد الجلابية المصرية. لماذا؟ القماش ليس مجرد نسيج، بل حامل رمزي للهُوية. فالمجتمع لا ينظر إلى الثوب الأبيض بوصفه قطعة قطن، بل بوصفه تجليًا لسلطة خليجية. ولا يرى الجلابية القروية إلا كمجسم متحرك للفقر المُتخيل، مهما بلغ سعرها. الجلابية لم تُمنع لأنها تخدش الذوق، بل لأنها تُذكّر بطبقة اختفت من الخريطة السياسية، فحُذفت من الخريطة البصرية
في الهند، مودي يخطب في الأمم المتحدة بالكورتا. في مصر، تُفتش هويتك قبل أن تدخل المقهى... والجلابية جواز سفر ملغي.
درس في السيادة البصرية: كيف تصنع الشعوب هويتها؟
أغلب الظنّ أن التجربة السعودية تقدّم درساً في السيادة البصرية. فبينما كان المصريون يطاردون عمائمهم ويخجلون من جلاليبهم، أصدر الأمير محمد بن سلمان قرارات تُلزم الطلاب بالثوب والشماغ في المدارس، والموظفين في الدوائر الحكومية، والوزراء والمسؤولين في الزيارات الدولية. ليست رجعية كما قد يظن البعض، بل استراتيجية هوية، أن تفرض صورتك على العالم بدل أن يفرض هو صورته عليك.
لعلّ النتيجة واضحة: سعودي يدخل بثوبه إلى وول ستريت وداوننغ ستريت، ومصري يُطرد بجلابيته من مقهى في وطنه. الفرق ليس في القماش، بل في الثقة بالذات. السعوديون حوّلوا زيّهم إلى سلطة رمزية، والمصريون حوّلوا زيّهم إلى وصمة ثقافية.
حين زار الملك فيصل أمريكا عام 1966 بثوبه وعقاله، قال له مستشاره: "جلالتك، ألا ترتدي بدلة؟" أجاب: "البدلة لباسكم، وهذا لباسنا. نحن فخورون بما نحن عليه".
أصوات المقاومة: من الأبنودي إلى ثورة الجلاليب
راهناً، تطفو أصوات مقاومة متفرقة: رانيا يحيى بحملتها "على الأصل دور" تجوب المحافظات بالأزياء التراثية؛ الشاعر عبدالرحمن الأبنودي ظهر بجلبابه الصعيدي في كل محفل أدبي؛ "ثورة الجلاليب" 2020؛ والنائب مصطفى الجندي حاول جعل الجلباب زياً قومياً رسمياً.
لكنها تظل صرخات في برية الخجل الحضاري، حيث دار الأوبرا المصرية - رغم عدم وجود قانون صريح - تطبق عرفاً غير مكتوب: البدلة الكاملة للدخول أو لا دخول، والباخرة السياحية تعلن صراحة "ممنوع دخول الجلابية". وحدهم شيوخ الأزهر يحملون راية الهوية على أكتافهم... والباقون يمارسون انتحاراً بصرياً يومياً.
صوت الشارع: حين تصبح السخرية سلاحاً ضد الذات
وإذ تساءلت ريهام سعيد: "ليه بنقبل بنت بفستان مكشوف ونرفض شاب بجلابية محترمة؟"، فإنها وضعت إصبعها على جرح مجتمع يحتفل بالهالوين أكثر من شم النسيم، يُسمّي أبناءه "چاك" و"نانسي"، يستورد حتى الملح، لكنه يحارب جلابيته التي كانت يوماً تُصدّر لروما وأثينا
بيد أنّ الشارع المصري يختزن في خطابه اليومي سخرية مُرّة تفضح عمق الأزمة: "هو لابس جلابية وداخل فورسيزنز؟ شكله فاكرها عزومة عند العمدة!"، "الجلابية حلوة في فرش البيت... مش على كراسي الكافيه!"، "السعودي بثوبه VIP... والمصري بجلاليبه بلدي أوي!"، "لو دخل بالجلباب، لازم يدخل معاه شهادة فلاح!"، "الجلابية تنفع في القرية بس!". هذه التعليقات الساخرة ليست مجرد دعابات، بل مرآة أخرى تعكس استبطان المجتمع للدونية الحضارية. وكل من يسخر من الجلابية... يكسر شظية من المرآة الجماعية.
دروس من التاريخ: حين تموت الشعوب واقفة
لكن دعونا نواجه أنفسنا بصدق:
- هل أنت من أولئك الذين يضحكون على الجلابية؟
- هل تهز رأسك حين ترى أحدهم يدخل بها مصلحة حكومية؟
- هل تشعر بالخجل إن طُلب منك ارتداؤها في مناسبة رسمية؟
في كوريا الجنوبية، أطلقوا حملات رسمية مكثفة لإحياء زيهم التقليدي "الهانبوك". اليوم، الهانبوك يُلبس بفخر في المناسبات الوطنية. في مصر، ننتظر موت آخر من يرتدي الجلابية لنقيم له متحفاً.
الصمت القاتل: حين تتواطأ المؤسسات ضد الهوية
وهذا الصمت التشريعي لا يقل خطرًا عن السخرية الإعلامية؛ فأن يُمنع زي تراثي دون مادة قانونية واحدة تحميه، فتلك خيانة ناعمة للهوية. ووزارة الثقافة التي تتغنى بالتراث في المؤتمرات، تصمت عن حماية أبسط رموزه في الشارع. مصر تحتاج إلى تشريع واضح: يمنع التمييز المظهري في المؤسسات والمقاهي، يفرض احترام اللباس الوطني ضمن قوانين الذوق العام، ويعاقب المنشآت التي تنتهك هذا الحق الرمزي للمواطن.
خارطة طريق للخلاص: من الهاشتاغ إلى الفعل
والحل؟ ليس مجرد غضب عابر أو هاشتاغ موسمي. نحتاج لبرنامج عمل واضح:
أولاً: التشريع الفوري
- قانون يجرّم التمييز على أساس الملبس
- تعديل قانون العمل ليشمل التمييز المظهري
- غرامات رادعة للمنشآت المخالفة
ثانياً: الثورة الإعلامية
- برامج تعيد للجلابية كرامتها
- أفلام تكسر الصورة النمطية
- مسلسلات تُظهر الجلابية كزي أناقة لا "غلابة"
ثالثاً: المبادرات الشعبية
- يوم وطني للزي المصري (25 يناير مثلاً)
- حملة مثل: "#جلابيتي_هويتي" أو "# كل_جمعة_جلابية"
- مقاطعة شاملة للمنشآت التي تمارس الأبارتايد الثقافي
رابعاً: التعليم والوعي
- إدخال تاريخ الأزياء المصرية في المناهج
- معارض دائمة للجلابية عبر العصور
- مسابقات تصميم للجلابية العصرية
لكن قبل كل ذلك، نحتاج أن نواجه أنفسنا بأسئلة صعبة: هل تقبل أن تكون الجلابية دليلاً على أنك "غير لائق"؟ هل تقبل أن تُطرد من وطنك لأنك ارتديت زيّ جدك؟ هل سنظل نبحث عن مرآة مستوردة... بينما نحطم مرآتنا كل يوم؟
المرآة المحطّمة: استعارة لوطن يبحث عن وجهه
بيد أنّ الأهم من كل ذلك هو استعادة القدرة على رؤية أنفسنا. فقصة عبدالرحمن بشاري ليست قصة فرد طُرد من مقهى، بل قصة شعب يرى نفسه في مرآة محطّمة. كل شظية تعكس وجهاً مشوّهاً: هنا تاريخ مُنكر، وهناك حاضر مُستلب، وهنالك مستقبل مُصادر
المرآة ليست مجرد زجاج عاكس. إنها الوعي الجمعي، الذاكرة الحضارية، الهوية المتراكمة عبر القرون. حين تتحطم، لا نرى إلا شظايا متناثرة من ذات ممزقة.
في مصر الجلابية تُطرد والهوية تُحاكم، وفي السعودية الثوب يحكم والسيادة تُمارس. والسؤال المصيري: هل نستمر في كسر المرآة؟ أم نبدأ في لمّ الشظايا؟
عندما يأتي حفيدك يسألك: "لماذا اختفت الجلابية؟"، هل ستقول "قتلناها نحن"؟ أم ستكون قد أعدتها للحياة؟
المرآة موجودة. الشظايا متناثرة. الخيار بأيدينا. نلمّها معاً، أو ندوس عليها فُرادى.
هكذا تُستعمر الشعوب: حين تكسر مرآتها وتنظر في مرايا غيرها. وهكذا تتحرر: حين تلمّ شظاياها - مهما آلمت - وترى وجهها الحقيقي.
تذكّروا: حضارة بنت الأهرامات وشقّت قناة السويس قادرة على حماية جلابية. السؤال الوحيد: هل تريد؟
فلنبدأ اليوم. الجلابية ليست مجرد قماش. إنها مرآة. ومن لا يرى نفسه، لن يراه أحد.
—————
الإهداء: إلى صديق العمر الحاج سعيد، رجل الأعمال البارز، ووالد الدكاتره والدكتورات، والصعيدي الأصيل بلباسه وقلبه الطاهر وحبه لوطنه وعروبته.  أهدي لك هذا المقال. شاكرًا للمعلومات القيمة التي استفدت منها بكتابته. 

12 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤