09 سبتمبر 2025

الجهات الداعية...شركاء في صناعة "مشاهير الفلس"

 قوائم الضيوف ليست عبثًا، بل صناعة قيم ومعايير اجتماعية
لفت انتباهي مقال الأخ والصديق خالد السليمان “من يدعو مشاهير الفلس”، وما إن فرغت منه حتى تذكرت صديقي البروفيسور في جامعة الملك سعود. الرجل أمضى ثلاثين عامًا بين المختبرات واللجان العلمية، ورفض عروضًا وظيفية في أرقى دول العالم، فإذا به يجد نفسه جالسًا في الصف الخلفي من فعالية رسمية، بينما يتصدر المنصة شاب اشتهر بمقاطع مقالب  على والده أو "هياط" مكشوف ببجاحة. قال لي ساخرًا: “يا أخي، ليتني وفرت جهدي واشتغلت على السناب من بدري، كان أجلس اليوم في الصف الأول”. يومها حسبما أرى، لم تكن ضحكته إلا مرارة متخفية.
ثمة خلل جلّي لا يحتاج لمكبر صوت: مؤسسات ترسم قوائم الدعوات وتضع التافهين في مقام الجادين. لا شك أن الجمهور يشارك في صناعة شهرة هؤلاء، بيد أن المصيبة الكبرى حين تُفرش لهم السجادة الحمراء من جهات رسمية، وكأنهم رموز وطنية أو علمية أو ثقافية أو حتى فنية ورياضية. يكفي أن نحضر أفتتاحًا أو ندوة لنشاهد المشهد المضحك المبكي: عالم فيزيائي يجلس بجوار من بنى شهرته على صرخة "كبسوا ياشباب" في “تيك توك” و "جاكو".
من الواضح أن المشكلة لم تعد تسلية بريئة، بل ثقافة تُصدَّر. إذا أردنا تقييم الضرر، فلننظر في ما يفعله هؤلاء بأسرهم: شاب يستعرض والده المريض للضحك، آخر يحوّل والدته إلى بطل ثابت لمقاطعه، امرأة تحوّل “حسدها” وغيرة جاراتها إلى محتوى يومي، وأخرى جعلت جسدها هو المحتوى، ورجل يعرض زوجته وكأنها إعلان متحرك، وأطفال صغار يُستخدمون كأدوات تسويق للسكريات والألعاب. متى سنكف عن اعتبار هذه السلوكيات “حرية شخصية” وهي في الواقع تسليع للعائلة وإهانة للقيم؟
يكفي أن نسأل: أي جيل سينشأ حين يتعلم الطفل أن قيمته تقاس بعدد المشاهدات؟ أي مراهق سيختار طريق التعليم والعمل إذا كان الطريق الأقصر إلى المال هو صراخ أمام الكاميرا؟ لا شك أن المجتمع كله سيدفع الثمن لاحقًا.
دعونا نكون عمليين: الحل ليس في الصراخ على المنابر فقط. إذا أردنا إيقاف هذا الانحدار فعلينا أن نطلق حملة شعبية: “قاطعوا مشاهير الفلس وداعميهم”. لا دعوة لمصادرة، بل موقف وطني واضح: أي فعالية تستعين بتافه نخسر ثقتنا بها، وأي شركة تجارية تستخدم هؤلاء في دعاياتها نخاطبها بالمقاطعة. عندما يشعر المنظم أن دعوته ستُحرجه أمام الرأي العام، سيفكر ألف مرة قبل أن يضع اسم مشهور التهريج في قائمته.
كما لا يخفى عليكم، ليست كل شهرة  مذمومة. حمود الصاهود مثلًا أعاد الشعر النبطي إلى الحياة بلغة عصرية وبأسلوب رزين، حتى صار الشباب يتداولون أبياته بفخر، لا بخفة. والدكتور عيد اليحيى -منذ كان صانعًا للمحتوى باليوتيوب- قطع آلاف الكيلومترات بعدها عبر “على خطى العرب”، موثقًا التاريخ والجغرافيا والهوية، ليعيد رسم صورة الجزيرة العربية في أذهان الناس. هؤلاء مشاهير، لكنهم مشاهير يصنعون معرفة، لا نكاتًا سامجة.
بيد أن من المؤلم أن نرى الفارق يضيع. التافه والمثقف في الصف ذاته، بل أحيانًا يتقدم التافه بخطوات. يكفي أن نتذكر أن كلمة “مشهور” كانت قبل سنوات تعني التميز في العلم أو الأدب أو الفن أو البحث وماشابه ذلك. أما اليوم، فمن الواضح أنها صارت تُطلق على من يعرف كيف يصرخ أو يتراقص أمام كاميرا الهاتف.
إذا أردنا مجتمعًا متوازنًا، فعلينا أن نعيد تعريف الشهرة. الشهرة ليست عدد المتابعين، بل نوع الأثر. يكفي أن نضع هذا المعيار على الطاولة: هل ترك أثرًا معرفيًّا أو إنسانيًّا؟ أم ترك مقطعًا يُضحك الناس ساعة وينتهي إلى غبار رقمي؟
 لا يمكن أن ننتظر الدولة لتعيد الأمور إلى نصابها، ولا الجمهور وحده ليستيقظ فجأة. المسؤولية مشتركة. دعونا نبدأ بأنفسنا: لا إعجاب لمحتوى تافه، لا تفاعل مع دعايات يستخدمونها، ولا تبرير لمشاركتهم في فعاليات عامة. إذا استطعنا أن نحرج الداعمين، فسنُعيد هؤلاء إلى مكانهم الطبيعي: الصفوف الخلفية.
لسنا ضد الشهرة ولا ضد الترفيه، لكن ضد تحويل المجتمع إلى سيرك تُدار فيه القيم بعدد المشاهدات. من الواضح أن “مشاهير الفلس” سيبقون بيننا مثل البعوض، لكن الخطر أن نفتح لهم أبواب بيوتنا وقاعاتنا الرسمية.
إن لم نُطلق حملة مقاطعة، فسوف نستيقظ قريبًا لنجد مؤتمر الطب يُفتتح برقصة تيك توك، وندوة الاقتصاد تبدأ بمقلب "وقح" في "الجد"، والمنتدى الثقافي يُدار كأنه إعلان رخيص تُباع فيه الأسرة قطعة قطعة: الأب للنكات، والأم للمقالب، والزوجة للترند، والطفل للإعلانات. متى سنكف عن هذا العبث قبل أن يتحول المشهد برمته إلى “بازار تفاهة” ندفع فيه قيمنا مقابل ضحكة بلا طعم؟
إذا أردنا موقفًا جماعيًا فاعلًا، فلنوجه رسالتنا: لا مقاعد ولا منصات لمشاهير الفلس. أي الهاشتاق برأيكم الأنسب لحملة مقاطعة تُحرج الداعمين قبل المهرجين؟
صوتكم هو بداية التغيير: 

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي