04 أغسطس 2025

الحمض النووي السعودي: بين وعد الجينات وخيانة البيئة

‏لماذا يحمل أحفاد الشعراء جينات الفصاحة ويُفضّلون الصمت؟
‏أيُعقل أن نعود، في القرن الحادي والعشرين، إلى السؤال ذاته الذي أرّق الفلاسفة: أنولد بصفاتنا أم نكتسبها؟ والأغرب أنّ العلم الحديث، عوض أن يحسم الجدال، راح يعقّده ويثريه. ثمّة في هذا التعقيد ما يُشبه مصيرنا العربي: كلّما ظننّا أنّنا اقتربنا من الجواب، اكتشفنا أنّ السؤال نفسه كان خاطئاً.
‏ذاك أنّ علم الوراثة السلوكية يكشف اليوم حقيقة مربكة: الإنسان ليس لوحاً أبيض تخطّ عليه التربية ما تشاء، كما أنّه ليس سجين شيفرة وراثية محتومة. إنّه، بالأحرى، حصيلة تفاعل معقّد بين ما وُرث وما يُفعّل، بين الجينات والبيئة، بين الحتمية والاختيار. وفي هذا التعقيد، لعلّنا نجد عزاءً لفشلنا المتكرّر، أو ربّما ذريعة جديدة له.
‏والشجاعة – تلك القيمة التي تغنّت بها القبائل ونظمت فيها القصائد – ليست مجرّد خُلق يُلقّن. الدراسات تشير إلى أنّ جينات مثل DRD4 وCOMT تؤثّر في مستويات الإقدام والميل للمخاطرة (Fidler et al., 2017). معامل وراثة هذه الصفة يتراوح بين 40- 60 %. بلغة أخرى: نصف شجاعتك مكتوب في حمضك النوويّ، والنصف الآخر؟ حسناً، هذا يعتمد على ما إذا كان مجتمعك يُكافئ الشجعان أم يُعاقبهم بتهمة "قلّة الأدب".
‏وهذا ليس ادعاءً إنشائياً، بل استنتاج تؤكده أضخم دراسة تحليل تلوية في علم الوراثة السلوكية حتى اليوم (Polderman et al., 2015)، والتي استعرضت أكثر من 17 ألف سمة بشرية عبر بيانات مأخوذة من 14 مليون زوج من التوائم. وخرجت بنتيجة مدهشة: جميع السمات السلوكية البشرية – بلا استثناء – لها قابلية للوراثة. حتى المعتقدات السياسية وتفضيلات الطعام والذوق الفني، تُظهِر أثراً وراثياً متفاوتاً. فهل يعني هذا أنّ جيناتنا تُحدّد مسبقاً إن كنّا سنتجه لليمين أم لليسار؟ أم أنّها مجرّد تُرجّح احتمالاً على آخر؟
‏لكنْ – وهنا مربط الفرس – الجينات ليست قدراً. الجين أشبه ببذرة لا تصير شجرة إلاّ بالماء والشمس. والأسرة التي تحتفي بشجاعة طفلها حين يدافع عن حقّه، إنّما تسقي جينات قد تذبل في سياق آخر. أمّا المجتمع الذي يكافئ الصمت ويحمي المتواطئ، فسيُنتج جيلاً يخاف حتّى من ظلّه، مهما حمل من جينات الفروسيّة. وإذ نتأمّل مجتمعاتنا اليوم، نتساءل: أيّ الجينات نُفعّل، وأيّها نُميت؟
‏وما يُقال عن الشجاعة يصحّ على الكرم. هرمون الأوكسيتوسين، المعروف بهرمون الثقة، يخضع لتأثير جين OXTR. بعض الأطفال يميلون للعطاء قبل أن يتلقّوا موعظة. بيد أنّ الطفل الذي ينشأ في بيت يسخر من الكريم ويصفه بالأحمق، سيرى جين الكرم فيه يذوي. في المقابل، البيوت التي تُشرك الأطفال في إكرام الضيف، وتروي قصص البذل بإعجاب، لا تخلق كرماء من فراغ، بل تُفَعِّل ما كان كامناً. ولعلّ في هذا تفسيراً لتحوّل بعض مجتمعاتنا من كرم البادية إلى بُخل المدينة العالمية: الجينات ذاتها، لكنّ البيئة تغيّرت، والقيم انقلبت.
‏لدينا في مجتمعنا قصصٌ حيّة تثبت ذلك. انظر إلى مبادرات العطاء التي قادها الشباب السعودي في رمضان:  بعضهم يروي أن جده كان مضرب مثل في الكرم، واليوم يُعيد الحفيد المبدأ نفسه بصيغة حديثة: تبرع إلكتروني، حملة مجتمعية، منصة خيرية. الجين ذاته، لكنّ الزمن تغيّر؛ وإضافة لذبح الخروف للضيف، صار التبرّع بنقرة زر. وهذا بالتأكيد تكيف مع متغيرات العصر.  
‏أمّا الشعر، فأكثر من موهبة عابرة. الطفل السعوديّ، بحكم البنية الوراثية القَبَلية، يُولد غالباً باستعداد للفصاحة، سواء فصيحة أم نبطية. لكنه لا يُولد بقصيدة في فمه، بل بقدرة تنتظر من يُنضجها. بيت يُسمع فيه الشعر، مدرسة تحترم اللغة، مجتمع يحتفي بالكلمة... كلّها تخلق الشاعر، لا الجين وحده. وإلاّ، فكيف نُفسّر أنّ أحفاد أمرئ القيس وعمرو بن كلثوم وغيرهم من الشعراء الفطاحل، يكتفون اليوم بتبادل الرسائل الصوتية المبتذلة؟
‏بل إنّ الدراسات العصبية الحديثة تشير إلى أن الذكاء اللغوي – أي القدرة على التلاعب بالكلمات ورسم الصور عبر اللغة – يرتبط ببنية الفص الجبهي الأيسر في الدماغ، وهي بنية لها مكوّن وراثي جزئي. بعبارة أخرى: قد يولد الطفل بجهاز لغوي جاهز، لكنه ينتظر من يوقظه بقصيدة، لا بشعار أجوف أو إعلان رخيص.
‏والقدوة هنا تصنع المعجزة. طفل يرى أباه يُلقي بيتًا، أو أمّه تحفظ معلّقة، سيشعر أن اللغة رفيقة. والطفل الذي يُقال له: "قل لنا"، سيجرؤ أن ينطق، وقد تكون أوّل جمل فصاحته في تلك اللحظة التي سُمِح له فيها بأن يُجرّب. أمّا الذي يُسكت كلّما حاول، فسيحمل جينات الفصاحة كما يحمل المرء ثروة في بنك أضاع مفتاحه.
الذكاء الشعري ليس سحرًا. إنه مزيج من ذاكرة سمعية قوية، خيال حي، ورغبة في اللعب باللغة – وكلها لها جذور جينية جزئية. لكن البيئة إما أن تعزف على هذه الأوتار، أو تتركها تصدأ. ويا للمفارقة: في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث الكلّ يكتب ولا أحد يقرأ، صارت جينات الفصاحة تُنتج ثرثرة لا شعراً.
‏والذكاء؟ نعم، يُورث. معامل وراثته يتجاوز خمسين في المئة في الطفولة، ويقترب من السبعين مع النضج (Plomin et al., 2016). نرث سرعة المعالجة وسعة الذاكرة. لكنّ طفلاً ذكيّاً في بيئة تكره السؤال سيُدفن ذكاؤه، فيما طفل عاديّ في بيئة تقدّر الفضول قد يتفوّق عليه. والمضحك المبكي أنّنا نُصرّ على قتل الأسئلة في أطفالنا، ثمّ نتساءل لماذا لا ننتج علماء!
‏بل تشير الدراسات إلى أن قابلية وراثة الذكاء تزداد مع العمر، لا تنقص، لأن الطفل يبدأ في "انتقاء بيئته" بما يتوافق مع استعداده. وهو ما يسميه العلماء: الارتباط الجيني-البيئي النشط. فحين يميل الطفل إلى القراءة لا اللّعب، أو العكس، فهو لا يخلق بيئته فقط، بل يُوقظ استعداداته الكامنة. لكن ماذا لو لم تكن هناك كتب أصلاً؟ ماذا لو كان الخيار الوحيد هو الجلوس أمام شاشة تُلقّنه السلبية؟
‏والذكاء ليس قالبًا واحدًا، بل طيف من القدرات. هناك من يرث الذكاء اللغوي، وآخر المنطقي، وثالث الاجتماعي، ورابع المكاني. الجينات تضع الاستعداد، لكن المجتمع هو من يُقرّر أيّ هذه الذكاءات يروي، وأيها يترك للجفاف. ولأنّ مجتمعاتنا تُقدّس نوعاً واحداً من الذكاء – ذاك الذي يُنتج موظفين مطيعين – فإنّنا نخسر عباقرة محتملين كلّ يوم.
‏بل إننا نرى ذلك في بيوت واحدة، بين إخوة يحملون الجينات ذاتها تقريبًا، لكن البيئة منحت أحدهم كتبًا وحرية، ومنحت الآخر صمتًا وتحذيرًا من الخطأ. الأول بات عبقريًا... والثاني نكرة يحمل ذكاء مكبوتًا.
‏حتّى الوفاء – تلك القيمة التي نحبّ أن نراها أخلاقية محضة – له جذور جينيّة. جينات مثل AVPR1a وOXTR تؤثّر في مشاعر الارتباط والالتزام. لكنّ الجينات لا تُنتج أوفياء في مجتمعات تُكافئ الخيانة الذكيّة، وتُربّي على المحاباة لا على الوعد. وهنا المفارقة الكبرى: نتغنّى بالوفاء في قصائدنا، ونُمارس الغدر في حياتنا، ثمّ نلوم الزمن!
‏والسعوديّون، بتاريخهم القَبَليّ، حالة تستحقّ التأمّل. مشروع الجينوم السعوديّ كشف عن تماسك وراثيّ في بعض المناطق. التزاوج الداخليّ عبر أجيال أنتج استقراراً جينيّاً في سمات معيّنة. لكنْ لماذا يبدو الجيل الحاليّ أطول وأذكى من أسلافه؟ أم أنّ هذا وهم آخر من أوهامنا الكثيرة؟
‏الجواب ليس في تغيّر الجينات، بل في تغيّر البيئة: تغذية أفضل، تعليم محسّن، مدن حديثة. الجينات ذاتها وُضعت في سياق جديد فأثمرت ثماراً مختلفة. الجينات وعد، والبيئة هي من تفي به... أو تخونه. لكن هل بيئتنا الجديدة أفضل حقّاً؟ أم أنّنا استبدلنا قيوداً بقيود، وأوهاماً بأوهام؟
‏لكن هنا أيضًا تكمن مفارقة العصر: بيئة اليوم ليست كلها بيئة نضج. الشاشة تأكل الحوار، والمدرسة صارت منهجًا لا روحًا، والبيت انشغل عن أبنائه بمنصات وهمية. الجينات تصرخ... لكن لا أحد يسمع. نُريد أطفالاً مبدعين، ونحبسهم في صناديق. نُريد شباباً شجعاناً، ونُعاقب من يُفكّر خارج القطيع.
‏وهنا، يجب أن ننتبه لشيء جوهري: ما ينطبق على الذكور ينطبق تمامًا على الإناث. الفتاة السعودية قد ترث الفصاحة، الذكاء، الوفاء، الابتكار. لكن إن لم تجد أسرة تحتفي بهذه البذور، أو مدرسة تُنصت لها لا تُسكّتها، ستظل الجينات أسيرة. والمأساة أنّنا نُضيّع نصف ثروتنا الجينية بحجج واهية، ثمّ نتساءل لماذا نتخلّف!
‏بيد أنّ هنا يكمن السؤال المقلق: هل نحن مجرّد ورثة صامتين؟ أم نملك قدرة على التحكّم بمصائر ما نحمل من صفات؟ وإذا كنّا نملك هذه القدرة، فلماذا نُصرّ على إضاعتها؟
‏الحقيقة أنّنا لا نرث كلّ شيء. نرث الطول، الذكاء، الحسّ الموسيقيّ، الفصاحة، وحتى الاستعدادات النفسية. لكنّنا لا نرث المبادئ ولا القيم ولا الإيمان ولا الذوق. نرث القابلية للتديّن، لكن لا نرث العقيدة. نرث الميل للوفاء، لا ميثاقه. نرث أدوات التفكير... لا الأفكار. والفرق شاسع بين أن تملك مطرقة وأن تعرف كيف تبني بها.
‏الجينات ترسم مساحة الاحتمال، لكن المعنى يُصاغ تربويًا، ثقافيًا، بالوعي والقدوة والتكرار. ثمّة جينات للاستعداد، لا جينات للحقيقة. نرث مفاتيح أبواب كثيرة، لكنّنا نختار أيها نفتح... وأيها نغلق. والمصيبة أنّنا غالباً ما نُغلق الأبواب الخطأ!
‏وكما نرث الشجاعة، قد نرث العناد. وكما نرث الفصاحة، قد نرث الحدّة. الطفل الذي يرث قابليّة للاكتئاب قد لا يعاني شيئاً في بيئة متوازنة، لكنّه في بيت مليء بالصراخ والمقارنة والإهمال قد يتحوّل إلى قنبلة موقوتة. والجينات هنا ليست المُلامة، بل نحن الذين نُشعل الفتيل.
وهنا نُذكّر بنتائج دراسة شهيرة (Caspi et al., 2003) على جين 5-HTTLPR المرتبط بالاكتئاب، والتي أثبتت أن الأفراد الذين يحملون الطفرة الجينية لا يُصابون بالاكتئاب بالضرورة... إلاّ إذا تعرضوا لبيئة ضاغطة نفسيًا. الجينات لا تخلق الأذى، بل تستجيب لسياق يصنعه الكبار. فهل نحن نصنع سياقات شفاء أم سياقات مرض؟
‏الخطر اليوم أن نُضيّع كنوزاً بالإهمال. الأسرة المشغولة بالشاشات لن تلاحظ موهبة ابنها. والمدرسة التي تكتفي بالحفظ ستقتل جينات الإبداع. والمجتمع الذي لا يقدّر الكرماء إلاّ بعد موتهم لا يستحقّ أن يُورّثهم. نحن كمن يملك منجم ذهب ويُصرّ على الحفر بملعقة صدئة!
‏فهل نحن عبيد جيناتنا؟ كلاّ. لكنّنا أوصياء عليها. والوصاية مسؤوليّة: أن نخلق بيئة تُطلق أفضل ما فينا، وألاّ نخنق الاستعداد النبيل باسم الواقعيّة. وهل الواقعيّة إلاّ اسم آخر لاستسلامنا المُزمن؟
‏في دواخلنا شيفرات لم نخترها، لكنّها تصير أمانة حين نُنجب. جينات الشجاعة لا تضمن شجعاناً إن لم نُعلّم أبناءنا الجرأة. وجينات الشعر لا تُثمر قصائد إن لم يسمع الطفل ما يُحرّك خياله. وجينات الذكاء لا تُنبت علماء إن لم تُسقَ بالأسئلة وتُروى بالفرص وتُحاط بالثقة. الجينات وعود، ونحن من يُحوّلها إلى حقائق أو أكاذيب.
‏نرث إمكانات الشعراء، لكنّ من يصعد المنبر ليس الجين، بل من وجد من يقول له: تكلّم. نرث الشجاعة، لكنّ البيئة تقرّر: أتكون نُبلاً أم عنفاً؟ نرث الذكاء، لكنّ ما نحوّله إلى معرفة هو ما يحدّد قيمته. والحقيقة المُرّة: نحن نُضيع معظم ما نرث، ثمّ نلوم القدر!
‏ألا نحتاج، والحال هذه، إلى مدرسة تُدرّب الجين على الإبداع لا على الطاعة؟ وإلى بيت يُطلق الفطرة لا يكبتها؟ وإلى مجتمع يرى في أطفاله ثروة وراثيّة تستحقّ الرعاية؟ أم أنّ الأسئلة نفسها صارت ترفاً في زمن الإجابات الجاهزة؟
‏في هذا التفاعل بين الخريطة الوراثيّة والمسار الاجتماعيّ تكمن مسؤوليّتنا: أن نكون جديرين بما ورثنا، وأن نُهيّئ لأبنائنا بيئة تليق بما يحملون من إمكانات تنتظر من يوقظها. لكن ها نحن، بدلاً من ذلك، نُنتج أجيالاً تحمل جينات العمالقة وتعيش حياة الأقزام.
‏وفي النهاية، لعلّ أكبر مفارقاتنا أنّنا نبحث في الجينات عن تفسير لفشلنا، بينما الجينات بريئة من جرائمنا. نحن من نختار، كلّ يوم، أن نُفعّل الأسوأ ونُميت الأفضل. نحن من نُحوّل الذهب الوراثي إلى رصاص اجتماعي. والجينات؟ إنّها تنتظر، صامتة وصابرة، من يُحسن قراءة رسالتها ويُجيد ترجمتها إلى واقع. لكن يبدو أنّنا، كعادتنا، نُفضّل التفسيرات السهلة على الحلول الصعبة. فأسهل أن نقول "هكذا خُلقنا" من أن نسأل "هكذا اخترنا أن نكون؟".

13 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤