كلّما سطعت شمس الحقيقة في الشرق الأوسط، سارعت الكواليس الدوليّة إلى نصب مظلّاتها السميكة. ذاك أنّ السؤال الوجوديّ اليوم ليس مَن يحتلّ مَن، بل مَن يحاصر مَن؟ وهل يستطيع رئيس مصري أن يرفض "صفقة القرن" ويبقى حيّاً سياسيّاً؟
في دقائق كاشفة ومتوالية، خرج علينا الإعلام الغربيّ بلغة مُحبَكة الدلالة: الغارديان البريطانيّة تنعت عبد الفتّاح السيسي بـ "الرئيس المؤقّت"، وبالتزامن ذاته، تُخرج أسوشييتد برس الأميركيّة من أرشيفها مقاطع فيديو تُظهر لحظات اغتيال
#السادات بوضوح لم يُر من قبل، وكأنّنا أمام تذكير بليغ: اعتبر نفسك عابراً في المنصّة، كما كان السادات عابراً.
ما الذي يجعل هاتين الرسالتين تتنادى في الفضاء الإعلاميّ إن لم تكن موسيقى واحدة؟ ولمَ يختار الإعلام الغربيّ هذا التوقيت بالذات، إن لم يكن
#السيسي قد تمرّد على السياق السياسيّ المرسوم له؟
ببساطة: لقد رفض الرجل، حرفيّاً، أن يبيع سيناء. رفض صفقة الـ 150 مليار دولار ورفع ديون مصر، مقابل توطين الفلسطينيّين على الأرض المصريّة. وهذا، في منطق الهيمنة، ذنب لا يُغتفر. وها هو يدفع ثمن ذلك الرفض، لا في عقوبات معلنة بل في حملة تستهدف شرعيّته بالوصف ("مؤقّت") والتخويف (مقاطع الاغتيال) والتهديد المخمليّ (جيروزاليم بوست ونشرها صور تجمعه بالرئيس الإيرانيّ)، وكأنّنا أمام رسالة كاملة الأركان: أنت لا تدوم إذا لم تطع.
والغريب أنّ الرئيس المصريّ يعيش محاصراً بين نقيضين – شكلاً – ومتشابهين – جوهراً- : جماعة الإخوان التي تتّهمه بالانبطاح للغرب وإسرائيل، والدوائر الغربيّة والإسرائيليّة التي تتّهمه بالانزلاق نحو المعسكر الإيرانيّ - الصينيّ – الروسيّ. وبتعبير أوضح، فإنّ الجماعة والقوى الغربيّة، اللتان يُفترض أنّهما في خصومة لا تنتهي، تشتركان في استهداف الرجل ذاته، وإن بذرائع متعاكسة! أليست هذه من عجائب السياسة في عالمنا المتزلزل؟
لكنْ هنا بالتحديد تبرز هفوة حاسمة في حسابات واشنطن وتل أبيب: ما الذي يدفع زعيماً عربيّاً إلى المخاطرة بعلاقاته مع الغرب إن لم يكن قد أعدّ بدائله؟ وها هي مناورات مصر العسكريّة الأخيرة تنكشف خارج سياقها الإعلاميّ الضيّق لتصبح خطوة في مسار استراتيجيّ: ذاك أنّ القاهرة، أكدت أن يكون لها علاقات جديدة في عالم آخذٍ في التحوّل، وهكذا جاءت مناوراتها مع الصين ("نسور الحضارة 2025") ومع روسيا ("جسر الصداقة 2025") على التوازي، مع ما تعنيه من تنويع بدائل السلاح والتدريب.
هذه المناورات، التي تُعدّ الأولى من نوعها مع الصين، لم تكن مجرّد "روتين" عسكريّ، بل دقّت ناقوس الخطر في تل أبيب وواشنطن: فالطائرات الصينيّة من طراز J-10C متقدّمة تقنيّاً، وأنظمة الدفاع الجويّ الروسيّة متطوّرة. والأهمّ أنّها تنويع للتسليح والعقيدة العسكريّة المصريّة بعيداً عن الاحتكار الأميركيّ. ردّ الفعل الغربيّ على هذا التنويع كان رسالة واضحة: "أنت مؤقّت، لا تذهب بعيداً". والردّ المصريّ كان سريعاً: "العلاقة ليست أحاديّة، ونحن ندير خطوطاً متوازية".
بل إنّ هذه المناورات الجريئة، في توقيتها ودلالتها، أثّرت على كيفيّة قراءة موقف مصر من ملفّ غزّة. فواشنطن، التي كانت تنظر إلى القاهرة باعتبارها منفّذاً مُطيعاً، اكتشفت أنّ الرئاسة المصريّة لديها خيوط ترابط مع موسكو وبكين، ما يمنحها، قدراً مميزًا من الاستقلاليّة في القرار. ألم يشر دبلوماسيّون غربيّون إلى أنّ تقارب مصر مع روسيا قد يهدّد "التوازن الهشّ" في الشرق الأوسط؟ ألم يصرّح إسرائيليّون بأنّ التعاون العسكريّ المصريّ مع الصين "يُعيد تشكيل المعادلة الأمنيّة"؟
فعلى صعيد، يحشد الإخوان جيوشهم الإلكترونيّة لمطالبة السيسي بفتح المعابر وتسهيل المساعدات، مدّعين انبطاحه للطلب الإسرائيليّ أو الأميركيّ. وعلى صعيد آخر، يتململ الأميركيّون والإسرائيليّون من رفضه القاطع لخطّة التوطين في سيناء، واستباقه المؤامرة بإجراءات ميدانيّة حاسمة: تعزيز انتشار القوّات المصريّة على الحدود، إنجاز الحائط الخرسانيّ العملاق، مدّ الخنادق... إلخ.
فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي يواجه بقوة وصلابة الأضلاع العالميّة والمحلّيّة، و ألقى بكرته في وسط ملعبهم: واقعيّة الدولة ضدّ وهم الشعبويّة. سار في حقل ألغام دبلوماسيّ، لا خارطة له إلا البوصلة الوطنيّة. والواضح أنّه كان قد درس خطط عبد الناصر في 67 واستخلص الدرس الصحيح: لا تأخذ قراراً شعبويّاً، ثمّ تبحث عن الأدوات. بل أسلك العكس: هيّئ الأدوات، ثمّ اتّخذ القرار الصحيح. وهو بالضبط ما فعله.
أحد التناقضات المذهلة هنا أنّ المعسكر الذي يتّهم الرئيس المصريّ بالانصياع الأميركيّ في ملفّ غزّة، هو نفسه من أصدر "فتوى الخيام": فقد شهدنا جميعاً المرشد العامّ للإخوان محمد بديع، في عهد محمد مرسي، يعلن من مسجد عمرو بن العاص: "لا مانع من إقامة مخيّمات للإخوة الفلسطينيّين في سيناء". وشهدنا أيضاً كيف أتاح الإخوان المسلمون لأنفاق
#غزّة أن تكبّد مصر خسائر فادحة، واحتجّوا بقوّة حين خنقت حكومة السيسي تهريب الوقود والسلاح عبر الحدود. فهل هذا غير ذاك؟ لا يهمّ؛ عندهم، السيسي هو المتّهم دائماً ومن كلّ الزوايا.
مضحكة هي السياسة في منطقتنا؛ حين كانت واشنطن تبني قواعد لوجستيّة على الحدود المصريّة، صمت الشعبويّون. وحين بنت مصر جداراً لحماية سيادتها، صرخوا: "افتحوا المعبر!". إنّه التناقض بعينه: يريدون مصر منفتحة على كلّ ما يهدّدها، ومغلقة أمام كلّ ما يعزّزها.
والسؤال الأهمّ: ماذا بعد؟
إذ بعد هذا الرفض المصريّ الصلب، هل سينتهي الضغط؟ أم أنّ أدوات جديدة قيد التفعيل؟ هل يكون القادم هو حصاراً إعلاميّاً، ماليّاً، أو محاولات "إعادة هندسة" النظام المصريّ من الداخل؟ وهل يمكن للسيسي أن يحافظ على خطّه المستقلّ، في وقت تقع فيه مصر اقتصاديّاً بين فكّي كمّاشة المؤسّسات الماليّة الدوليّة؟
والأبلغ هنا، ألا يثير كلّ هذا سؤالاً ملحّاً عن طبيعة الديمقراطيّة الغربيّة التي تبيع وتشتري الشرعيّات السياسيّة، متى شاءت، ولمن يطيعها؟ أليس في ذلك تهكّماً تاريخيّاً: أن تؤهلّك واشنطن للديمقراطيّة بشرط أن تكون "طيّعاً" لإملاءاتها؟ هل نحن فعلاً أمام فتح تاريخيّ، أم أمام استعمار جديد يصل إلى أسرّتنا ليلاً ويعلّمنا كيف نحلم؟
مصر ليست طارئة على التاريخ، ولا الرئيس المصريّ طارئاً على السلطة. وحين يتعلّق الأمر بالقرار المستقلّ، فإنّ السيسي لم يقترب من الصورة الشعبويّة المثاليّة اليسارية للزعيم العربيّ المخلّص من المؤامرات. لكنّه، في هذه النقطة بالذات، برهن على أنّه رجل دولة، لا رجل خطابات. فهو لم يعلن قرار الرفض من خلال مهرجان خطابيّ، ولا أرسل كتائبه الشعبيّة للصراخ في الشوارع. صحيح، قال إنّه يرفض، وقال إنّ ترحيل الفلسطينيّين "ظلمٌ لا يمكن أن تشارك فيه مصر"، لكنّه لم يحوّل ذلك إلى مناسبة للمتاجرة بالكاريزما. هو ليس عبد الناصر، وليس معجزة القائد المناضل المهيب الملهم. لكنّه، ببساطة، الرئيس الوطني المستقل الذي يصون سيناء من أن تصبح صينيّة تقدَّم على طاولة النظام العالميّ.
نعم، مسألة توطين أهالي غزّة في سيناء ليست مسألة إنسانيّة، بل هي شكل من أشكال الإبادة الوطنيّة للفلسطينيّين والسياديّة لمصر. توطين عدّة ملايين في
#سيناء ليس "مساعدة مؤقّتة" كما يريد الأميركيّون والإسرائيليّون تسويقها، بل هو نسخة جديدة من صفقة القرن، تنهي القضيّة الفلسطينيّة بشكل تدريجيّ من خلال تحويل نزوح الفلسطينيّين إلى أمر واقع دائم. وهذا ليس تخمينات "تآمريّة"، بل أُعلن صراحة في التسريبات من قادة عسكريّين وسياسيّين إسرائيليّين.
مع هذا، لماذا لا نعمد إلى إعطاء القول مستحقّه من العمل؟ لماذا نواصل التعريض بالسيسي؟ لا لشيء، إلا لأنّه استثناء قال "لا" حين كان المفترض أن يقول "نعم"؟ هل هذا، في زمننا، كفر بـ "دين الطاعة للطغيان الغربي"؟
الخلاصة؟ الكلّ يعرف ما الذي حدث: صمدت مصر ورئيسها، في وجه عاصفة الإرغام. وعوقبا بأن صار الرئيس "مؤقّتاً"، والرفض "عناداً". لكنّه الرفض الذي يجعل من مصر أكثر من مجرّد بلد: يجعلها وطناً.
نحن لا نرى صفقات الـ150 مليار، ولا نعرف ما يُقال في الغرف المغلقة، لكنّنا نعرف شيئاً واحداً: أنّ سيناء هي شرف مصر، وشرفها لا يمس او ينتقص.
هكذا، وللتاريخ، قال رجل مصر، قالها في زمن العروض الباهظة، فاختار ألّا يبيع. وفي زمن الشعار، اختار القرار. وفي زمن الطاعة، اختار أن يقول لا.