عجباً لزماننا هذا! لو قُيّض لأجدادنا، أولئك الذين شقوا صدر الصحراء بخيولهم وإبلهم، أن يستفيقوا من رقادهم الأبدي ليشاهدوا أحفادهم اليوم، لظنوا أن الزمن قد ارتد بهم إلى الجاهلية الأولى. فها هم فتية القرن الحادي والعشرين، بسياراتهم الفارهة وهواتفهم الذكية التي باتت أذكى من أصحابها، يقفون أمام عدسات "تيك توك" ليعلنوا شروطهم للزواج وكأنهم يتفاوضون على شراء بعير أعرج لا على شراكة العمر!
"ما أبي وحدة تشتغل بمكان مختلط، ولو كانت دكتورة!" يصيح أحدهم، وكأن الطب أضحى مهنة الشيطان الرجيم. "العباية الملونة خط أحمر!" يردف آخر، ناسياً أن جده كان يتباهى بسيفه المطلي بالذهب كرمز للفخر والقوة. "اللي تتحجب وتكشف وجهها ما تدخل بيتي!" يختم ثالث، متجاهلاً أن جدته كانت تتزين بالكحل والحناء.
هذا المشهد المضحك المبكي يذكرني بحكاية ذلك التاجر العراقي الذي قدم المدينة المنورة إبان العصر الأموي ليبيع الأخمرة؛ فباع كل ما لديه إلا الخمار الأسود مما سيعرضه للافلاس، حتى مر به الشاعر مسكين الدارمي فلما عرف محنته أنشد قائلاً: "قل للمليحة في الخمار الأسود * ماذا فعلت بناسك متعبد". فإذا بالخمار الأسود يصير موضة رائجة بين نساء المدينة. ترى لو عاد هذا التاجر اليوم، أكان سيجد سوقاً رائجة لعباءاته السوداء، أم أنه سيكتشف أن سوق الجهل قد كتب على بضاعته الكساد الأبدي؛ وكأنه يبيع الثلج في القطب الشمالي؟
إن ما نشهده اليوم ليس إلا عَرَضاً لما أسميه "داء الصحوة المزمن". وهو مرض أشد فتكًا من فيروس "القردة" وأكثر عدوى من الضحك في عزاء من لاتعرف، فبعد أن ظننا أننا تجاوزنا عصر التشدد والانغلاق، ها نحن نرى بقاياه تنخر في عقول شبابنا كما ينخر السوس في الخشب العتيق. وإذا أردنا أن نفهم هذه الظاهرة، فعلينا أن ننظر إليها كتجربة اجتماعية واسعة النطاق، لا كمجرد نزوة عابرة.
فالشباب الذين نشأوا في ظل هذه الصحوة قد تشربوا مفاهيمها حتى صارت جزءاً من تكوينهم النفسي. وهنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف نعيد صياغة الهوية الثقافية بطريقة توازن بين الأصالة والمعاصرة، في ظل الإسلام المعتدل الذي أختطفته عقود الصحوة المشؤومة، دون أن نفقد بوصلتنا الأخلاقية؟
ولنضع هذه الظاهرة تحت مجهر الإحصاء لنرى حجم المفارقة. تخبرنا الأرقام -تلك الكائنات الصماء التي لا تكذب ولا تتجمل- أن 94.3% من السعوديين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، بمعدل يفوق ال 3 ساعات يومياً. أي أن هؤلاء الشباب "المحافظين" يقضون ربع وقت يقظتهم في عالم افتراضي مفتوح على مصراعيه كفم تمساح جائع، ثم يأتون ليطالبوا بإغلاق المجتمع الحقيقي في وجه نصفه الآخر! أليست هذه قمة التناقض، مثلهم في هذا بمن يأكل الثوم ثم يشتكي من رائحة فم الآخرين!
والأكثر سخرية أن هذه الآراء المتحجرة تنتشر في وقت قفزت فيه نسبة مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل من 17% إلى 35%. فبينما تسعى المملكة جاهدة لتحقيق رؤية 2030، نجد من شبابنا من يريد العودة بنا إلى عام ١٩٩٢! وكأن عقارب الساعة تسير للأمام عند الجميع، وللخلف عند هؤلاء الشباب المساكين الجهلة؛ الذين يصرون على التمسك بقشة في بحر هائج.
ولعل الأخطر من كل هذا أن هذه الأفكار لا تنتشر في فراغ. ففي مجتمع يشهد حالة طلاق كل 10 دقائق، نجد من يضع شروطاً تعجيزية للزواج. وكأن هؤلاء الشباب يقولون: "نفضل الانقراض على التكيف مع الواقع الجديد"!
إن هذه الظاهرة تكشف عن أزمة هوية عميقة تضرب جذورها في صميم تاريخنا الحديث. فشبابنا، في محاولتهم اليائسة للتمسك بما يظنونه بفضل "ظلامية الصحوة": "أصالة"، إنما يكشفون عن جهل مطبق بتراثهم الحقيقي. فهل نسوا أن جداتهم كن يكرمن ضيوف الصحراء ويركبن الخيل بفروسية تفوق المتسابقين في "غراند ناشيونال" ؟ هل غاب عن بالهم أن نساء الصحابة كن يشاركن في الحروب ويداوين الجرحى؟
والأدهى من ذلك، أنهم في غمرة حماسهم لـ"الفضيلة" المزعومة، يتناسون أن الإسلام الحقيقي أوسع وأرحب من تصوراتهم الضيقة. فها هو الشيخ الألباني - رحمه الله - يبيح كشف الوجه، بينما هم يريدون حجب المرأة عن الحياة بأكملها!
فماذا نقول لهؤلاء الشباب؟ هل نذكرهم بأن المرأة السعودية اليوم تقود السيارة في الشوارع، وتقود الشركات في سوق المال، وتقود الوفود في المحافل الدولية؟ أم نذكرهم بأن تشددهم في اختيار شريكة الحياة قد يكون سبباً في انقراضهم كنوع اجتماعي في عصر يتطلب المرونة والتكيف؟
علينا ألا نكتفي بالنقد فحسب، كمن يصرخ على سطح منزل يحترق بدلاً من محاولة إطفاء النار ، بل أن نسعى لتقديم بدائل وحلول. يجب أن نشجع حواراً مجتمعياً حول كيفية التوفيق بين الأصالة والحداثة، وكيف يمكن لهويتنا الثقافية أن تتطور دون أن تضيع، كما تتطور الفراشة من شرنقتها دون أن تفقد جمالها.