شتائم الإسقاط: من علم النفس إلى صفحات التاريخ
ثمّة في تاريخ مصر الحديث فصلٌ مطوي، يشبه الصفحة المحذوفة من كتاب المدرسة؛ صفحة تحكي كيف دخل الجندي الهندي القاهرة فاتحاً، لا عاملاً. والحال أنّ مَن يشتم الخليجيين -السعوديين خصوصا- بـ"يا ابن الهنود" إنّما يُذكّرنا، من حيث لا يدري، بيوم كان فيه الهندي يحمل البندقية في الإسماعيلية، لا المطرقة في الدمّام. وإذ نستعيد تلك الأيام، يلوح أنّ الشاتم يهرب من مرآة تعكس وجهه الحقيقي.
ذاك أنّ التاريخ، وإن حاولنا تجميله، يظل عنيداً كالحقيقة. ففي 13 سبتمبر 1882، يوم معركة التل الكبير، لم يكن الجيش البريطاني الذي هزم أحمد عرابي مكوّناً من الإنجليز وحدهم؛ بل كان جيشاً آسيوياً في جوهره. اللواء الهندي الثاني، بقيادة الجنرال ماكفرسون، ضمّ ثلاثة أفواج: البنجاب العشرين، والبلوش التاسع والعشرين، والبنغال السابع. هؤلاء لم يأتوا سُيّاحاً، بل جاؤوا ليُعلّموا المصري درساً في الطاعة لم ينسَه حتى اليوم.
بيد أنّ الجنود الهنود لم يكونوا ضيوفاً على أرض مصر؛ بل كانوا نُدلاً في مطبخ الإمبراطورية البريطانية، يقدّمون الاحتلال على أطباق من دمٍ مصري. في التل الكبير، كان البنغالي يقتحم، والبنجابي يقصف، والراجبوتي يطارد. أما المصري... فكان يفرّ أو يُستعبد أو يموت.
بيد أنّ المفارقة الأعمق تكمن في أنّ هذا الدرس تحوّل، بقدرة قادر، إلى شتيمة يُطلقها المهزوم على مَن لم يُهزم قطّ. كأنّ المصري يقول للخليجي: "أنتم أبناء الهنود لأنّهم يعملون عندكم"، ناسياً أن يُكمل: "أمّا نحن فأبناء مَن احتلّونا وحكمونا وقتلونا". الشتيمة هنا ليست سوى خيمة مخرّقة يحتمي بها من بلّلته فضائح التاريخ.
راهناً، وبعد قرن ونصف، لا تزال الوثائق تنطق. أشار الجنرال ولسلي إلى الدور المحوري للتشكيل الهندي في انتصار التل الكبير، مؤكداً أنهم خاضوا المعركة ببسالة ومهارة، وظلوا نقطة ارتكاز لنجاح الهجوم.. لئن كان هذا رأي القائد المنتصر، فما بالك بالمهزوم الذي شهد تلك الوحشية؟ أغلب الظنّ أنّ الذاكرة الجمعية المصرية احتفظت بصور لا تُمحى: الجندي السيخي بعمامته، والبنغالي ببندقيته، والبلوشي بخنجره.
لعلّ في علم النفس ما يُفسّر هذه الظاهرة: إنّها محاولة يائسة لنقل العار من الذات إلى الآخر. فالهندي في الذاكرة المصرية ليس مجرّد جندي عابر؛ بل رمز لهزيمة مُذلّة لم تندمل. وحين يعجز المرء عن مواجهة ماضيه، يُسقطه على جاره. هل يُعقَل أن نُشتم بما لم نفعله، ويصمت من عايش الجنود في فراشه؟
والأدهى أنّ الجنود الهنود لم يكتفوا بالتل الكبير. ففي معركة القصاصين (1885) ضدّ المهدي السوداني، كانت القوّة الضاربة هندية. وفي الحرب العالمية الأولى، دافع 29 ألف جندي هندي عن قناة السويس ضدّ العثمانيين. وفي معركة رمانة (1916)، قاتلت كتيبة "جات" الهندية ببسالة دفاعاً عن أرضٍ مصرية لم يدافع عنها أصحابها.
وإذ نُراجع صفحات ذلك الاحتلال، يلوح وجه الهندي لا كعامل... بل كآمر. هؤلاء الجنود لم يأتوا ويرحلوا كالضيوف؛ بل أقاموا وتزوّجوا وأنجبوا؛ فسنة "اللقطاء" 1882 ليست مزحة؛ إنها رواية شعبية مصرية دارجة، تقول إن آلاف الأطفال وُلدوا من علاقات بين الجنود الهنود ونساء مصريات؛ فصار “ابن الهندي” شتيمة محلية مصرية قبل أن تصير قذيفة تُرمى على غير أهلها. حتى لو كانت الرواية مبالغاً فيها… فإن تأثيرها النفسي باق.
وإذا كان ثمّة "أبناء هنود" في مكان ما، فليس في الخليج الذي لم تطأه قدم جندي آسيوي، بل في وادي النيل الذي شهد ولادات لم تُسجل في دفاتر النسب.
الخليجي، وهذا فرقٌ جوهري، لم يستقدم الهندي مُكرهاً، ولم يضع في يده سلاحاً، بل عقد عمل. جاء الهندي إلينا بإرادته، يبني ويُعمّر، ويعود في نهاية المطاف إلى أهله بما كسب. أمّا الهندي الذي عرفته مصر، فجاء بأمر الإمبراطورية، يهدم ويُدمّر، يُفتش ويسجن، ويبقى في النهاية ليحكم ويتحكّم. الهندي دخل الخليج ببطاقة إقامة... ودخل مصر ببطاقة أمر عسكري. بين المسطرين والبندقية مسافة شرف.
ذاك أنّ الفرق شاسع بين من يحمل المسطرين ومن يحمل البندقية، بين من يبني السقوف ومن سقّف الكرامات، بين من يُقيم الجدران ومن أقام الحواجز. الهندي عندنا عامل في ورشة، وعندهم كان عامل مجزرة. في الخليج: خادم في مطبخ. في مصر: جندي في معسكر.
إذ، أيّهما أشرف: أن تستأجر عاملاً يبني لك ناطحة سحاب، أم أن يستأجرك الاستعمار لتكون أرضاً يدوسها جنوده الملوّنون؟ الهندي في دبي يقود التاكسي، وفي القاهرة كان يقود الدبّابة. في الرياض يطبخ الكاري، وفي الإسماعيلية كان يطبخ الموت. في الكويت يُصلّح المكيّفات، وفي بورسعيد كان يُصلّح البنادق.
هكذا يتّضح أن الشتيمة المصرية ليست سوى صرخة مكتومة في وجه التاريخ؛ محاولة بائسة لقلب الحقائق وتزوير الذاكرة. وكأنّ الصارخ يقول: "دعوني أنسى أنّ الهندي حكمني، بأن أتذكّر أنّه يخدمكم". الشتيمة مرآة مكسورة: كلما بصقتم فيها... عاد الرذاذ إلى وجوهكم. يُقال: أبناء الهنود؟ بل أبناء البنادق!
والحقّ أنّ هذا المنطق المقلوب يكشف عن أزمة أعمق: أزمة شعب لم يتصالح مع تاريخه، فراح يُفتّش في تاريخ الآخرين عن عزاء. يُعيّرنا بالعُمّال الذين نحترمهم، وينسى الجنود الذين أذلّوه. يسخر من الهندي الذي يكنس شوارعنا، ويتناسى الهندي الذي كنس كرامته.
فيا مَن تقول "يا ابن الهنود"، اعلم أنّ الشتيمة مرآة، والتاريخ لا يُمحى بالصراخ. بيد أن السؤال الأعمق -الذي يفترض أن يسأله كل مصري نفسه- ليس من هو "ابن الهنود"، بل: لماذا نحتاج أصلاً لشتم الآخر كي نشعر بأننا أسياد؟ لماذا نُفتش في عقود العمّال عن عارٍ نُلصقه بغيرنا، بدل أن نفتش في سجلات المعارك عمّن سلبنا السيادة؟
أمّا التاريخ؟ فهو لا يُشتم ولا يُمدح... إنّه فقط يعود، كالشبح، كلّما ظننتم أنكم دفنتموه