29 يونيو 2025

الشركة المتحدة: من هندسة الوعي إلى تدمير صورة مصر

 الشركة المتحدة: من هندسة الوعي إلى تدمير صورة مصر
‏"كس أمك" بدلاً من "تحيا مصر": كيف حوّلت المخابرات الإعلام إلى عصابات السب
‏في زمن السيطرة، لا تحكم الأنظمة بالقرارات فقط، بل بالسرديات. الإعلام لم يعد مرآة، بل آلة لصناعة الوعي أو تزويره.
‏ثمّة في مصر اليوم كيان يُسمّى "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"، صار هو ماكينة هذه الصناعة، لا بوصفه مؤسسة تجارية، بل باعتباره الذراع المرئية لجهاز المخابرات العامة، والمتحكّم المركزي في كل حرف يُنشر، وكل رأي يُذاع.
‏لكن كما يسقط الجسد حين يفسد عقله، هكذا بدأت ماكينة السرد تنهار، وتتحوّل من آلة إقناع إلى مولّد للسخرية، ومن هندسة للوعي إلى ماكينة تشويه ذاتي.
‏ذاك أنّ القصة بدأت عام 2016، حين اندمجت شركتا "إعلام المصريين" و"دي ميديا"، فوُلدت الشركة المتحدة. لكنّها لم تكن مشروعاً اقتصادياً، بل امتداداً هندسياً لعقل الدولة الأمنية.
‏يملكها ويديرها جهاز المخابرات العامة، وتضم تحت مظلتها أكثر من 40 شركة إعلامية تشمل 17 قناة، 6 إذاعات، 12 صحيفة وموقعاً.
‏والأخطر أنّها تتحكّم في الدراما المصرية بأكملها تقريباً، تلك الصناعة التي كانت يوماً قوّة مصر الناعمة الأولى. مسلسلات رمضان التي كانت تجمع العرب صارت منابر للدعاية الفجّة. الأعمال التاريخية تُزوّر لخدمة السردية الرسمية. حتى الكوميديا، ملاذ المصريين الأخير، تحوّلت إلى أداة تطبيل مقيتة.
‏الهدف المُعلن: توحيد الخطاب الإعلامي. الهدف الحقيقي: إحكام قبضة الدولة على كل رواية بديلة.
‏في عصر المايسترو اللواء عباس كامل، مدير المخابرات و"ظل الرئيس"، كانت اللجان الإلكترونية في قمة احترافيتها -مقارنة بالوضع المصري الحالي، وليس مقارنة بغيرها- رجل يعرف متى يُقنع، ومتى يصمت، ومتى يهاجم.
‏أطلقت حملات دعائية منظمة بذكاء تكتيكي، واحتوت أزمات كفيديوهات محمد علي عبر حملات مضادة، واستثمرت في شخصيات رمادية تؤدي دور "المعارض المحسوب".
‏كان التنسيق مركزياً، عبر مجموعات واتساب ونشرات تحريرية. والرسالة كانت تمرّ، حتى وإن لم تُصدّق.
‏بيد أنّ هذا التوازن الهشّ كان مرتبطاً بشخص كامل وثقة الرئيس به، لا بمنظومة مؤسسية راسخة.
‏والحال أنّ ما حدث بعد تولّي اللواء حسن رشاد الجهاز كان أشبه بانفجار مجاري الصرف الصحّي في وجه الجميع.
‏رشاد، في محاولته اليائسة لإثبات كفاءته وولائه، حوّل اللجان الإلكترونية من أدوات دعاية إلى عصابات شتيمة. صارت تروّج لعبارات طفولية مثل:
‏> " الرئيس زعيم بحجم العالم"
‏> "أمريكا لا تجرؤ على ضرب إيران إلا بإذن الرئيس"
‏إعلام الدولة روّج لصور فوتوشوب مُعدلة تُظهر الرئيس يتقدّم موكب الرؤساء. تم فصل برامج رياضية بحجة المخالفة المهنية لأنّها قالت ما لا يتطابق مع السردية.
‏لكنّ الأنكى من هذا كلّه أنّ الإعلام سقط في وحل السب والشتيمة بدل الحوار.
‏الانهيار لم يكن فنياً فقط، بل أخلاقياً أيضاً. منابر إعلامية كاملة تحوّلت إلى عصابات شتيمة. أيّ مواطن عربي يُبدي رأياً مخالفاً يُواجه بوابل من القذارة اللفظية التي تبدأ بـ"كس أمك" ولا تنتهي عند "يا ابن المتناكة".
‏ولعلّ المُذهل في الأمر أنّ التوحيد بلغ درجة الكاريكاتير. يكفي أن تفتح أيّ صحيفة مصرية، أو تُشاهد دقائق من أيّ برنامج حواري، حتى تعرف بالضبط ما هي التعليمات التي وصلت عبر الواتساب صباح ذلك اليوم.
‏العناوين متطابقة، الضيوف أنفسهم، الأسئلة ذاتها، وحتى الأخطاء الإملائية موحّدة! كأنّهم ينسخون من نفس الورقة؛ وهم فعلاً ينسخون!
‏هكذا، وباسم الدفاع عن مصر، يُهدم ما تبقّى من صورة مصر الحضارية.
‏وهكذا، فإنّ المصري الذي كان يُعرف في الوعي العربي بخفّة ظلّه وعمقه الثقافي، صار مرتبطاً بصور الشتّام البذيء.
‏الشاب الخليجي أو الشامي أو المغاربي الذي يدخل نقاشاً، صار يتوقّع هجوماً مسبقاً من حسابات مصرية وهمية مدفوعة، لا تناقش بل تسبّ، لا تُقنع بل تُهين.
‏لقد تحوّل الإعلام من أداة إقناع إلى أداة إرهاب رقمي.
‏وإذ يُضاف إلى هذا الخطاب التفاخري الأجوف، تكتمل المأساة. فاللجان لا تكتفي بالسباب، بل تُردّد مقولات من قبيل:
‏> "إحنا حضارة سبعة آلاف سنة"
‏> "إحنا اللي علّمناكم"
‏> "إحنا اللي بنينا دولكم"
‏قصص عن "التكية المصرية" التي أطعمت الخليج، ومساعدات وهمية قدّمتها مصر للعرب، وأساطير عن دور مصري في بناء دول الخليج، كلّها تُكرّر بلا كلل ولا خجل. محاولة يائسة للتعويض عن الإحساس بالدونية الحاضرة بأوهام العظمة الماضية.
‏ولعلّ الكارثة تبلغ ذروتها مع تيّار "الكمايته" المدعوم رسمياً، والذي يُحاول تبرير كلّ هذا الفشل بالحديث عن الهوية الفرعونية.
‏فحين تُثار انتقادات حول مشاريع العاصمة الإدارية الباهظة التكلفة، أو احتفال متحف مصر الكبير، يأتي الردّ: نحن أحفاد بُناة الأهرامات، نحن الفراعنة! 
 المشهد يُذكّر بشكل مُخيف باحتفالات الشاه الإيراني بـ2500 عام على الإمبراطورية الفارسية، بينما كان الشعب يئنّ تحت وطأة الفقر. التاريخ يُعيد نفسه كمهزلة، والعظمة المُتخيّلة تُستخدم لتبرير البذخ الحقيقي.
‏البنية العميقة لهذه الماكينة تكشف عن نظام محكم للسيطرة: الصحفيون يتلقّون تعليمات تحريرية يومية عبر واتساب. المواضيع تُحدّد، والنصوص تُوزّع، وأيّ تعديل يُعاقب.
‏المجلس الأعلى للإعلام يُغلق المنصات ويُحاسب الرأي. حتى المعارضة التي لا تُهاجم تُمنع. وحتى الحياد يُعتبر خيانة.
‏لعلّ الأكثر إيلاماً هو الانفصال التام بين السردية الرسمية والواقع المعاش: الإعلام يتحدّث عن الطفرة، والمواطن يرى انهيار الجنيه.
‏الإعلام يُمجّد العاصمة الإدارية، والناس لا تجد أنسولين.
‏الصحف تتحدّث عن هيبة مصر، والشباب يهاجرون على قوارب الموت.
‏الخطاب الرسمي فقد أيّ علاقة بالحياة.
‏والحقّ يُقال، إنّ الرئيس المصري، الذي نعرف جميعاً عروبته الأصيلة وتاريخه العسكري المُشرّف، لو وصلته الصورة كاملة لما رضي بها. لكنّ الرجل، وهذا مفهوم، مشغول بتحدّيات جسام، من أمن قومي مُهدّد إلى اقتصاد يُحاول النهوض.
‏ربّما المشكلة في الحاشية التي تُصوّر له النجاح حيث لا نجاح، والتأييد حيث لا تأييد. تلك الحاشية التي تحوّلت من أداة مساعدة إلى عبء ثقيل.
‏بيد أنّ الجمهور لم يعد صامتاً. موجات من السخرية الرقمية تنتشر بعد كلّ حملة دعائية. فيديوهات تسخر من "معجزات النظام": الفقر كنعمة، والبطالة كراحة.
‏حملات رسمية تتحوّل إلى نكتة شعبية. الجمهور يضحك بصوت عالٍ. وحين يسخر الجمهور من سرديتك، فقد أسقطها.
‏وفي مفارقة لاذعة، نجد أنّ هذا كلّه يحدث بينما الشركة تغرق في الخسائر المالية. 637 مليون جنيه في ثلاث سنوات.
‏مزاعم أرباحها مجرّد موازنة موجّهة سياسياً. مكتب الرئيس فتح مراجعة لتضخّم الرواتب والسفريات. الملايين تُنفق على لجان تُدمّر ما تبقّى من سمعة البلد.
‏والأدهى أنّ هذا الفشل له تكلفة اقتصادية باهظة تتجاوز خسائر الشركة. فالسياحة، عصب الاقتصاد المصري، تتضرّر حين تتحوّل صورة مصر من بلد الحضارة والضيافة إلى بلد السباب والعنف اللفظي والأحتيال بعنوان: "الفهلوة".
‏المستثمرون العرب الذين كانوا يرون في مصر سوقاً واعدة، صاروا يُفكّرون مرّتين قبل ضخّ أموالهم في بلد إعلامه يُهين ويشتم. حتى العمالة المصرية في الخليج، التي تُحوّل مليارات الدولارات سنوياً، صارت تواجه نظرات الريبة والاستياء.
‏وإذ نُقارن هذا بما يحدث في الإعلام الخليجي، ندرك حجم الكارثة.
‏الإعلام الإماراتي يُسوّق لمتاحف حقيقية ومشاريع ملموسة. الإعلام السعودي يُروّج لرؤية 2030 ومواسم ثقافية فعلية.
‏الإعلام المصري يُنتج أوهاماً خالصة ويُدافع عنها بالسباب. حتى حين يُبالغ الإعلام الخليجي، فهو يُبالغ في شيء موجود.
‏إنّ ما يحدث اليوم ليس مجرّد فشل مؤسسة إعلامية، بل انهيار منظومة كاملة من القيم والمعايير.
‏الشركة المتحدة، بكلّ أذرعها الأخطبوطية، لم تفشل فقط في مهمّتها المعلنة - توحيد الخطاب الإعلامي - بل نجحت في تحقيق عكس المطلوب تماماً.
‏وحّدت العرب، نعم، لكن في النفور من النموذج الذي تُقدّمه. جعلت من مصر، بلد الأزهر والثقافة والفنّ، مرادفاً للبذاءة والكذب في أذهان كثيرين.
‏حوّلت الإعلام من أداة قوّة ناعمة إلى فضيحة صاخبة.
‏إنّ الرواية ليست كتيبة، ولا منشور. إنّها عقد ثقة بين المواطن ودولته. وإن سُخِر منها، سُخِر من الدولة ذاتها.
‏لا تُبنى الشرعية على صور معدّلة. ولا الهيبة تُؤسّس بمنشورات شتيمة. ولا النظام يُقنع شعبه عبر شاشات تُلقّنه، لا تُفكّر معه.
‏هذه ليست دولة، بل إعلان طويل... والجمهور "كتم" الصوت.
‏هكذا تنتهي قصة الشركة المتحدة: من مصنع للسرد إلى مصنع للسخرية. من هندسة للوعي إلى ماكينة تشويه ذاتي.
‏والأنكى أنّ الضحية الأولى لهذا الفشل ليست النظام الذي أنشأ الشركة، بل صورة مصر وسمعة المصريين في العالم العربي.
‏تلك الصورة التي بناها عمالقة الثقافة والفنّ والأدب عبر عقود، تُهدم اليوم بأيدي جيوش من السبّابين المأجورين الذين يظنّون أنّهم يُدافعون عن بلدهم، فيما هم في الحقيقة يدفنون ما تبقّى من مجدها. 

10 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤