29 أغسطس 2025

الطواف حول الطاولة: سفر السعوديين كحجّ بلا كعبة

 روزنامة مكرّرة، مطاعم محفوظة، شوارع مرسومة، وديون تُحمل كجبال السروات… فيما إنستغرام وسناب يحوّلان الرحلة إلى مكانة اجتماعية جديدة
ثمة في الصيف السعودي ما يشبه الحج بلا كعبة: روزنامة سنوية مقدسة محفوظة عن ظهر قلب. باريس في مطلع يونيو، ماربيا في منتصف يوليو، لندن في أغسطس، وجنيف كالمحطة السويسرية التي لا يغيب عنها أحد. الكل يعرف متى يغادر وأين يجلس، والتغييرات لا تتعدى بضعة أسطر في عقد كامل. قال أحدهم: «عشر سنوات ما غيّرنا إلا سطرين أو ثلاثة، والباقي محفوظ». التكرار هنا طقس بحد ذاته.
الجدول اليومي مكتوب سلفاً: إفطار في المقهى المعتاد، جولة في المول، غداء في المطعم الثابت، جلسة مسائية في بورتو بانوس أو نايتسبريدج، ثم عشاء في “نوفيكوف” أو “زوما”. المشهد محفوظ إلى حد أن الكراسي تعرف أصحابها.
في لندن، الطواف على هارودز وبوند ستريت وأوكسفورد ستريت صار أشبه بفرض طبقي لا يسقط بالتقادم. يلوح أنّ الشراء أقل أهمية من المرور. الحضور يكفي.
وفي باريس لا يكتمل المشهد بلا الشانزليزيه ومطاعم لافينو ولولو ولو رولي دو لونتركوت. الصورة باتت أقدس من النكهة، وما يُلتقط بالعدسة أطول عمراً من أي طبق.
أما ماربيا فنهارها في نيكي بيتش ولياليها في أوليفيا فالير وبونتي رومانو؛ مدينة تحوّلت إلى شاشة مفتوحة أكثر منها شاطئاً. العرض هو الرسالة.
وجنيف كلها تختصر في شارع الرون؛ نسخة سويسرية من نايتسبريدج، حيث الحقائب والساعات تُعرَض أكثر مما تُشترى. لا حاجة للتملك، يكفي أن تكون في الصورة.
هذه الرزنامة تُدار بسلطة إلكترونية ثلاثية: سناب شات وواتساب وإنستغرام. في السناب، أهم الطقوس هو فتح اللوكيشن: لا تكفي الصورة، بل يجب أن يعرف الجميع أين جلست ومتى. الواتساب غرفة العمليات التي تُدار منها الجداول والخرائط وأسماء السائقين. أما إنستغرام فيضع الختم الأخير بصورة مُنمقة تُعرض كإثبات وجاهة. الحضور لا يكتمل إلا حين يُوثق. فالفرد لا يخشى أن يغيب عن المكان بقدر ما يخشى أن يغيب عن عيون الآخرين
الطبقات بدورها تتوزع: (كان) للعموم الباحثين عن نصيبهم من المشهد. سانت روبيه قدّمت نفسها حصناً للنخبة القديمة، لكن إنستغرام كشفها في ثلاث سنوات؛ الأرصفة تحوّلت إلى مسرح مكتظ بالهواتف، وسقط سر النخبة بلقطة شاشة. أما الطبقة الأرقى قديماً فبقيت في سردينيا، حيث تتحول اليخوت إلى برلمان عائم؛ ولو أن البحر وحده يسمع تصفيقهم. النخبة لا تعيش بلا جمهور، حتى لو كان البحر.
محدثو الرفاهية يطاردون الجدول كما يطارد المبتدئ مدربه: يلتزمون بالمحطات بلا روح، ويثبتون حضورهم بالصور و"الترزز" والسوالف التي يروونها عند العودة. أما الطبقة الوسطى فهي التي تتحمل الفاتورة الحقيقية: تستدين، وتشُد بطاقات الفيزا كأنها حبال من جبال السروات، تثقلها وتخنقها، مقابل حضور عابر في نادي الوجاهة. الثمن يُدفع سريعاً، أما الدين فيبقى دهراً.
وفي قلب هذا الطقس، العلاقات العابرة والبحث عن الزواج جزء لا يتجزأ: نظرات في بورتو بانوس، ابتسامات في نايتسبريدج، لقاءات "مصادفة" في الردهات. بعضهم يبحث عن علاقة عابرة لإثبات ذاته، وبعضهن عن زواج ينقلهن من مقعد مؤقت إلى مقعد دائم في النادي الاجتماعي. الزواج هنا امتداد للعرض.
الأوروبيون ينظرون بدهشة. يرون موكباً سعودياً منظمًا كقطيع، يكرر الحركات نفسها، يلتقط الصور في الزاوية ذاتها، ويغادر في الموعد ذاته. بالنسبة لهم، ما يُسمّى سياحة أقرب إلى طقوس دينية غامضة؛ جموع تتحرك بانتظام، تكرر ذات الحركات، كأنها تؤدي شعيرة لا يفهمونها.
وكما للصيف رزنامته المقدسة، صار للشتاء طقوسه. الوجهة الأبرز كورشوفيل، حيث بذلات التزلج أغلى من مهارة التزلج نفسها. وهناك طبقة أخرى تتوهم العلو فتلجأ إلى غشتاد، القرية الهادئة التي جعلت الصمت نفسه معيار وجاهة: يهربون من الزحام ليُثبتوا أنهم أعلى منه. الصمت صار سلعة.
وفي المقابل، أسلافنا ابن بطوطة وحمد الجاسر شدّوا الرحال لاكتشاف المجهول؛ أما السعودي المعاصر فيشد الرحال ليجلس في نفس الزاوية، أمام نفس الطبق، يلتقط نفس الصورة. الأوائل صنعوا معرفة، والجدد يشترون وهماً غالياً اسمه المكانة. الرحلة تحولت إلى تذكرة اجتماعية، لا أكثر.
والحال أن ما يُسمى سفرًا لم يعد سوى حج بلا كعبة: رزنامة مكررة بتغييرات لا تُذكر، مقاعد محفوظة، صور متكررة، وبطاقات ائتمان تُرفع كالرايات. أوروبا كلها تختزل إلى مطعم أو شارع، لا للاكتشاف بل للشهادة الاجتماعية. هناك من يبحث عن مكانة، من يبحث عن علاقة، من يبحث عن زوجة. الجميع يطوفون حول الطاولة ذاتها، بخشوع يليق بمقدس عصري اسمه البرستيج.
وللمفارقة الكبرى، يكفي أن يقرر أحدهم يوماً بلا تصوير، بلا رزنامة، بلا طقس، ليكتشف أن العالم أوسع من جدول مقدس… وأن السفر يبدأ فقط حين ينتهي العرض

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي