من عباءة الشورى، حيث يُفترض أن تُكتب قوانين المستقبل، كتب عضو سابق يتصرف كأنه عضو في «مجلس نواب كوريا الشمالية»، لا مُشرّع سابق في دولة من دول G20. يرى الخطر في دمعة عريس أكثر مما يراه في ثغرة سيبرانية، ويعتقد أن الوطن صورة فوتوغرافية يمكن حجبها بزر «بلغ عن محتوى». كأن اقتصادًا يتجاوز التريليون دولار؛ قد ينهار بسبب أحد #مشاهير_الفلس وهو يبكي على سناب، أو بيت شعر تمت إساءة تفسيره، أو مهايطي يصور عشاء ضيوفه، أو يوزع السيارات من حر ماله، لا بسبب تقلبات النفط أو الحروب السيبرانية أو صراع الذكاء الاصطناعي.
والحال أن هؤلاء الشباب لم يكونوا خوارج ولا دعاة فتنة. لم يطالبوا بانقلاب، ولم يشجّعوا على عنف. لم يسيئوا لأحد، لا للدين ولا للأمن الوطني ولا للرموز. أقصى جُرمهم دمعة تذوب بعد 24 ساعة أو بيت شعر غير موفق، لكن في ذهن العضو السابق المذعور تحوّلت هذه التفاهات إلى «خطر وطني» يستدعي وزارة الإعلام لتصبح بلدية رقمية توزّع مخالفات على المقاطع.. مثلًا: إشعار بمصادرة دمعة غير مرخصة. فلنتخيل النموذج الذي يريده العضو السابق: قرار وزاري بمنع الميكروفونات لأن شاعرًا ارتجل بيتًا ركيكًا، بلاغ أمني عن سيارة عريس مزينة بالورد وكأنها تهدد النظام العام، وتعميم حكومي بمنع ولائم الكبسة حفاظًا على استقرار الدولة من إيديولوجيا الهياط الرأسمالية.
بيد أنّ الجهل هنا ليس عارضًا بل مركّبًا: الإعلام في المجتمعات الحيّة مرآة صافية تكشف العيوب ليُصلح. أما في ذهنه فهي مرآة يجب تغطيتها ببشـت سميك، فلا يرى الناس إلا ما يروق للرقيب. والنتيجة؟ السخف يتكاثر في العتمة كالفطر السام، بينما المجتمع الواثق يضحك من الوليمة، ينتقد الشاعر الرديء، ثم يمضي في طريقه نحو المريخ؛ وهذا حرفيًا ما تخطط له الرياض عبر برنامج الفضاء .
ذاك أنّ المسألة تتجاوز جهل فرد إلى أزمة حضارية. روما حين كبحت مسارحها لم تمنع السخرية بل دفعتها للسراديب حتى انفجرت. العثمانيون رفضوا المطبعة ثلاثة قرون باسم «الحفاظ على القيم»، فكانت النتيجة تخلّفًا موثقًا. واليوم، في زمن تُبنى فيه نيوم وتُطلق الأقمار الصناعية، يخرج علينا من يتصرّف كأنّ وزير الإعلام موظف بلدية يلاحق الدموع، لا وزيرًا في دولة تصدّر النفط للعالم وتستثمر في الذكاء الاصطناعي.
الأرقام تفضح العبث: مشاركة المرأة ارتفعت إلى 37% . الاستثمار الأجنبي تضاعف أربع مرات، بينما 94% من السعوديين يستخدمون المنصات الرقمية يوميًا (الهيئة العامة للإعلام – 2024)، وهي نسبة تفوق معدل الاتحاد الأوروبي البالغ 87% (Eurostat – 2023). ومع ذلك، هناك من يرتعد من صور مفاطيح كأنها تهديد للبنية التحتية السيادية.
التاريخ يسخر بوقاحة: الصين التي حاربت العصافير التهمها الجراد. روما التي كمّمت مسارحها التهمتها السراديب. القاعدة العامة أن المجتمع الذي يخاف من انعكاسه يحوّل كل ظل إلى وحش. والعضو الذي كان يجلس تحت قبة الشورى وهو يتخيل نفسه نائبًا في بيونغ يانغ، لا يفرّق بين وطن يطلق أقمارًا صناعية ويبني بنية سيادية ويسير للمستقبل بثبات، ووطن يوزع صور الزعيم على جدران المدارس ويسجد ويقدس بحمده. هذه مشكلة من لم يستوعب روح رؤية 2030. ومازال على عقلية "أمنع تسلم". عقلية تظن أن جريدة البلاد أهم من يوتيوب وصحيفة الندوة تؤثر أكثر من منصة أكس!
أما أنا، فقد ضحكت حين قرأت مقاله كما يضحك المرء من إشعار بمصادرة دمعة أو قرار بمنع الكبسة. ثم حزنت، لأن مقعدًا في مجلس تشريعي شغله من يخاف من بكاء عريس أكثر مما يخاف من ثغرة قانونية قد تكلف المليارات.
وفي النهاية، تبقى الصورة كما بدأت: مسرحية عبثية حيث عضو شورى سابق من القرن الخامس عشر يحاور وزير إعلام -على الملأ- على القمع بدلًا من التوعية، بينما المجتمع يعيش في القرن الحادي والعشرين. مأساة أن يُختزل وطن كامل في دمعة سناب قابلة للحذف ومطالبة محاكمتها، بينما ناطحات الرياض تضيء من الفضاء، وأقمارها تدور غير عابئة بدموع الأعراس ولا بمن يخاف منها.