دعوني أحدثكم اليوم عن مهزلة جديدة تضاف إلى سجل مهازلنا الطويل. مهزلة نرتديها كالثوب الجديد، ونتباهى بها في المحافل الدولية، ونحن لا ندري أننا نضحك على أنفسنا قبل أن يضحك علينا الآخرون. إنها مهزلة "الذكاء الاصطناعي" في مجتمعاتنا العربية.
ولكن قبل أن نغوص في تفاصيل هذه المهزلة، دعونا نتوقف لحظة لنفهم ما أقصده بـ "العقل الجمعي العربي". إنه ذلك النسيج المعقد من الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد التي تشكل وعينا الجماعي كأمة. إنه الإطار الفكري الذي نرى من خلاله العالم ونفسر به الأحداث. هذا العقل الجمعي ليس ثابتًا، بل هو نتاج تراكمي لتاريخنا الطويل، يتشكل ويتغير مع كل تحدٍ نواجهه وكل تجربة نمر بها.
والآن، دعونا نتتبع كيف تعامل هذا العقل الجمعي مع التحديات التكنولوجية عبر التاريخ، لنرى كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم مع الذكاء الاصطناعي.
لنعد إلى القرن الثامن عشر، عندما واجه العالم العربي والإسلامي أول صدمة حضارية كبرى مع الغرب. في عام 1798، جاء نابليون إلى مصر، وكان معه آلة الطباعة. فماذا كان موقف علماء الأزهر منها؟ لقد أفتى بعضهم بتحريمها! قالوا إنها بدعة، وإنها ستؤدي إلى انتشار الكفر والإلحاد.
ثم جاء القرن التاسع عشر، وبدأت موجة الإصلاح والتحديث في العالم العربي. رأينا محمد علي في مصر يرسل البعثات إلى أوروبا لتعلم العلوم الحديثة. ورأينا رفاعة الطهطاوي يكتب عن باريس وحضارتها. لكن في المقابل، كان هناك من يرفض كل جديد باسم الدين والتقاليد.
وفي أوائل القرن العشرين، عندما بدأت السيارات تظهر في شوارعنا، كان هناك من أفتى بتحريم ركوبها، بحجة أنها "عمل الشيطان". واليوم، صار أحفاد هؤلاء المفتين يتسابقون على اقتناء أفخر السيارات، ويتباهون بها في الشوارع والميادين!
هذا النمط من الرفض الأولي ثم القبول المتأخر للتكنولوجيا استمر مع كل اختراع جديد. من الراديو إلى التلفزيون، ومن الهاتف إلى الإنترنت. وفي كل مرة، كان العقل الجمعي العربي ينقسم بين الرافضين والمتحمسين، بين المحذرين والمبشرين.
واليوم، نحن نواجه تحديًا جديدًا يفوق في أهميته كل ما سبق: الذكاء الاصطناعي. فكيف يتعامل معه عقلنا الجمعي؟
تعالوا معي نتجول في شوارع القاهرة أو بغداد أو دمشق. ماذا نرى؟ نرى شابًا يتحدث بحماس عن "شات جي بي تي" وهو يقف في طابور كربلائي للحصول على "تأشيرة بركة" من ضريح الحسين. نرى رجل أعمال يستخدم أحدث برامج الذكاء الاصطناعي لإدارة شركته، ثم يذهب ليستشير "المُنجم فلان" عن موعد مناسب يتوافق مع "طالعه" لعقد صفقة تجارية. أو سيدة أعمال لا تخرج من بيتها إلا ووضعت بين عينيها الخرزة الزرقاء لتكون لها درعًا حصينًا من رصاصة "العين" المحشوة ببارود "الحسد".
هذه المفارقات ليست جديدة علينا. فنحن، منذ أن طرق الاستعمار أبوابنا في القرن التاسع عشر، ونحن نعيش حالة من الفصام الحضاري. نريد أن نركب قطار الحداثة، لكننا نخشى أن يأخذنا إلى محطة نفقد فيها "هويتنا" و"أصالتنا". وكأن الهوية شيء جامد لا يتطور، وكأن الأصالة تعني الانغلاق والتقوقع!
إن هذه الازدواجية في التعامل مع التكنولوجيا ليست إلا عَرَضًا لمرض نفسي عميق يعاني منه عقلنا الجمعي. إنه مرض "الانفصام الحضاري". فنحن نعيش بجسد في القرن الحادي والعشرين، وبعقل في القرون الوسطى. نريد ثمار الحضارة، لكننا نرفض جذورها. نريد النتيجة، لكننا نخاف من المقدمات.
لكن المشكلة ليست في الرفض فقط، بل في القبول الأعمى أيضًا. فكما أن لدينا من يرفض كل جديد، لدينا أيضًا من يقبل كل ما يأتي من الغرب دون تمحيص أو نقد. وبين هذا وذاك، ضاع صوت العقل.
في أحد مقاطع اليوتيوب، شاهدت شيخًا عربيًا يقول: "الذكاء الاصطناعي حرام لأنه يتنبأ بالغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله!". وفي نفس البحث، شاهدت مقطعًا لأستاذ جامعي يقول: "الذكاء الاصطناعي سيحل كل مشاكلنا، سنصبح مثل أمريكا في سنوات قليلة!". وبين هذا وذاك، كان الطلاب يستخدمون "شات جي بي تي" لكتابة أبحاثهم، غير مبالين بالحلال والحرام، ولا بالتقدم والتخلف!
هذه الازدواجية ليست وليدة اليوم. إنها متجذرة في تكويننا النفسي والاجتماعي. فغالبنا -كعرب- يعيش في مجتمعات "فهلوية"، تجيد فن التحايل على كل شيء، حتى على أنفسنا. نريد أن نكون "عصريين" في المظهر، و"تقليديين" في الجوهر. نريد أن نستفيد من التكنولوجيا، لكن دون أن ندفع ثمنها الفكري والاجتماعي.
دعونا نكون واقعيين. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد "موضة" ستمر. إنه ثورة حقيقية ستغير وجه العالم. وموقفنا منه سيحدد موقعنا في العالم الجديد. هل سنكون مجرد مستهلكين ومستخدمين؟ أم سنكون مساهمين ومبدعين؟
المشكلة أن مجتمعاتنا مازالت تعاني من "عقدة الخواجة". نظن أن كل ما يأتي من الغرب هو الأفضل. لكننا في الوقت نفسه، نخشى هذا الغرب ونتهمه بالتآمر علينا. هذا التناقض يشل تفكيرنا ويعيق تقدمنا.
في إحدى الدول الخليجية، رأيت مشروعًا ضخمًا للذكاء الاصطناعي. مليارات الدولارات تُنفق على أحدث التقنيات. لكن عندما سألت عن الكوادر المحلية القادرة على تشغيل وتطوير هذه التقنيات، كان الجواب مخيبًا للآمال. كل الخبراء من الأجانب، والشباب المحلي مازال يدرس تخصصات تقليدية لا علاقة لها بالذكاء الاصطناعي.
هؤلاء، كأنهم يبنون لهم قصرًا فخمًا، لكنهم لا يعرفون كيف سيسكنونه، فيقررون إهدائه للخواجه على أن يعطيهم قصصًا أسبوعية عن المتع التي عاشها في هذا القصر، ولعله يتكرم عليهم ويعزمهم للقصر في حفلة شواء ويسمح لهم بالجلوس بالجاكوزي الخارجي لدقائق، دون أن يخبرهم كيف يبردون الماء أو يسخنونه، ولعله يكون خبيثًا فيعجبه المشهد فيوعز لأحد بني جلدته بأن يزيد من الحرارة حتى تتمزق أجلادهم، ويستحون من أن يخرجوا منه كي لا يصفهم الخواجا بالتخلف، وهو يشير لهم بكأس الشامبانيا من بعيد مشجعا لهم على ممارسة هذه المتعة التكنولوجية الخارقة للعادة كاتماً ضحكته!
هذه الظاهرة تذكرني بما حدث في عصر النهضة العربية. استوردنا المطابع والمدارس الحديثة، لكننا لم نستورد العقلية التي أنتجتها. أخذنا الشكل وتركنا المضمون. واليوم نكرر نفس الخطأ مع الذكاء الاصطناعي.
لكن الأمر ليس ميؤوسًا منه. فأمامنا فرص حقيقية إذا أحسنّا استغلالها:
أولًا: يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي لفهم تراثنا بشكل أفضل. تخيلوا لو استطعنا تحليل آلاف المخطوطات التي تملأ مكتباتنا في ساعات معدودة! كم من الكنوز المعرفية يمكن أن نكتشفها؟
ثانيًا: يمكننا توظيف الذكاء الاصطناعي في حل مشاكلنا المزمنة. في الزراعة مثلًا، يمكن استخدامه لترشيد استهلاك المياه وزيادة الإنتاج. وفي الصحة، يمكن استخدامه للتشخيص المبكر للأمراض.
ثالثًا: يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير لغتنا العربية. بدل أن نشكو من ضعف اللغة العربية في عالم التكنولوجيا، يمكننا أن نطور برامج ذكاء اصطناعي تفهم وتنتج اللغة العربية بكل تعقيداتها.
لكن كل هذا يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة تفكيرنا. يتطلب أن نتخلص من عقدة الخواجة التي تجعلنا نستورد كل شيء جاهزًا. يتطلب أن نبني قدراتنا الذاتية، وأن نطور تعليمنا ليواكب متطلبات العصر.
إن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا يجب محاربته، ولا إلهًا يجب عبادته. إنه أداة، مثل السكين. يمكن استخدامها لتقطيع الخبز أو لارتكاب جريمة. والفرق ليس في السكين، بل في من يمسكها. فهل نحن مستعدون لإمساك سكين الذكاء الاصطناعي بحكمة ومسؤولية؟ أم سنظل نخاف من ظلها ونرتعد من صوت شحذها؟
نحن أمام مفترق طرق تاريخي. إما أن نستمر في لعب دور المتفرج، وإما أن نقرر أن نكون لاعبين أساسيين في هذه الثورة التكنولوجية. والسؤال الأهم: هل سيتطور عقلنا الجمعي ليواكب هذه التحديات، أم سنظل أسرى ماضينا ومخاوفنا؟
وأختم بقول الشاعر: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر". فهل نريد الحياة حقًا؟ أم سنظل نردد موالنا القديم: "كنا وكنا وأصبحنا على حالة ... يرثى لها وتولى الدهر والعصر"؟ الإجابة متروكة لكم، أيها السادة. والتاريخ شاهد علينا. وشهادته لاترحم.