في أغسطس 2023، شهدت جوهانسبرغ حدثاً تاريخياً بإعلان توسيع مجموعة البريكس لتشمل ست دول جديدة، بينها المملكة العربية السعودية (السعودية مازالت لم تنضم نهائيًا، ومؤكد أن هناك أمور لانعلمها في جعبة حقيبة المفاوضات السعودية). في الوقت ذاته، عمّق الرئيسان الروسي والصيني تحالفهما الاستراتيجي في موسكو. هذه الأحداث المتزامنة لم تكن مجرد تحركات دبلوماسية، بل إعلاناً صريحاً عن تحول جذري في النظام العالمي.
هذا المقال يستكشف كيف تتجاوز هذه التطورات النظريات التقليدية مثل "نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات"، ويقدم رؤية جديدة للعلاقات الدولية من منظور سعودي وعربي وإسلامي. نطرح نظرية "التشابك العالمي المعقد" كإطار لفهم هذه التحولات، ونحلل كيف يمكن للمملكة العربية السعودية والعالم العربي والإسلامي أن يشكلوا مستقبل النظام العالمي في عصر التعددية القطبية.
نقد النظريات التقليدية
نهاية التاريخ: وهم الانتصار الليبرالي
عندما أعلن فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ" في 1992، بدا وكأن الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية قد انتصرتا نهائياً. لكن الواقع اليوم يكشف عن صورة مختلفة تماماً. وفقاً لتقرير صادر عن معهد بروكينغز في 2023، فإن صعود الصين كقوة اقتصادية وتكنولوجية عالمية، مع نموذجها السياسي الفريد، يشكل تحدياً مباشراً لافتراضات فوكوياما.
من منظور سعودي وعربي، فإن النجاح الاقتصادي للدول الخليجية والتطور السريع يثبت أن هناك مسارات متعددة للتنمية والتقدم، لا تتبع بالضرورة النموذج الغربي الليبرالي. وفقاً لدراسة أجرتها جامعة الملك عبد العزيز في 2022، فإن نموذج التنمية السعودي يجمع بين الحداثة الاقتصادية والقيم الإسلامية، متحدياً الافتراض بأن التحديث يعني بالضرورة التغريب.
صراع الحضارات: تبسيط مفرط لعالم معقد
نظرية صامويل هنتنغتون حول "صراع الحضارات" قدمت رؤية أكثر تشاؤماً، متنبئة بصراعات حتمية بين الحضارات الكبرى. لكن الواقع الحالي يظهر صورة أكثر تعقيداً. فالتحالف الوثيق بين روسيا والصين، رغم اختلافهما الحضاري، والتعاون المتزايد بين دول البريكس التي تنتمي لحضارات متنوعة، يتحدى الافتراضات الأساسية لهنتنغتون.
دراسة أجراها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في 2023 تشير إلى أن المملكة العربية السعودية، بانضمامها إلى مجموعة البريكس وتعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا، مع الحفاظ على علاقاتها التاريخية مع الغرب، تقدم نموذجاً حياً لكيفية تجاوز الانقسامات الحضارية المفترضة لصالح المصالح المشتركة والتعاون العملي.
نظرية التشابك العالمي المعقد: إطار جديد لفهم العالم
في مواجهة قصور النظريات التقليدية، نقترح نظرية "التشابك العالمي المعقد" كإطار جديد لفهم العلاقات الدولية المعاصرة. هذه النظرية تستند إلى خمسة عناصر رئيسية:
1. التداخل المعقد بين الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة: في عالم اليوم، لا يمكن فصل التأثيرات الاقتصادية عن التطورات التكنولوجية أو الديناميكيات الثقافية.
2. مرونة الهويات والتحالفات: الدول والمجتمعات لم تعد مقيدة بانتماءات ثابتة، بل تشكل تحالفات متغيرة بناءً على المصالح المشتركة.
3. القوة المتعددة الأبعاد: تتجاوز مفاهيم القوة اليوم القدرات العسكرية والاقتصادية التقليدية لتشمل القوة الناعمة والقوة الرقمية.
4. الحوكمة العالمية المتعددة المستويات: تتداخل أدوار الدول والمنظمات الدولية والشركات العابرة للقوميات في صنع القرار العالمي.
5. الأمن الشامل: يتجاوز مفهوم الأمن الجوانب العسكرية التقليدية ليشمل الأمن البيئي والصحي والغذائي والسيبراني.
تطبيقات النظرية على الواقع المعاصر
التحالف الروسي الصيني: نموذج للتشابك العالمي المعقد
وفقاً لدراسة أجراها معهد الولايات المتحدة للسلام في 2023، فإن التحالف الاستراتيجي بين روسيا والصين يتجاوز العلاقات التقليدية ليشمل تعاوناً عميقاً في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والدفاع. هذا التحالف يجسد عناصر نظرية التشابك العالمي المعقد:
- التداخل الاقتصادي والتكنولوجي: التعاون في مشاريع الطاقة والتكنولوجيا المتقدمة.
- مرونة التحالفات: تجاوز الاختلافات الأيديولوجية والتاريخية لصالح المصالح المشتركة.
- القوة المتعددة الأبعاد: الجمع بين القوة العسكرية الروسية والقوة الاقتصادية والتكنولوجية الصينية.
الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل القوة العالمية
تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في 2024 يشير إلى أن التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي تعيد تشكيل مفاهيم القوة والأمن الوطني. هذا يتوافق مع عناصر نظريتنا:
- التداخل التكنولوجي والاقتصادي: تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد والأمن القومي.
- القوة المتعددة الأبعاد: أهمية التفوق التكنولوجي في تحديد القوة الوطنية.
- الأمن الشامل: تداخل الأمن السيبراني مع الأمن القومي التقليدي.
توسع البريكس: إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي
دراسة أجراها البرلمان الأوروبي في 2024 تشير إلى أن توسع مجموعة البريكس يضيف 3.24 تريليون دولار إلى اقتصادات المجموعة. هذا التوسع يجسد عناصر نظرية التشابك العالمي المعقد:
- مرونة التحالفات: تجمع دول من قارات وثقافات مختلفة حول مصالح مشتركة.
- الحوكمة العالمية المتعددة المستويات: تحدي المؤسسات المالية التقليدية وإنشاء بدائل.
- القوة المتعددة الأبعاد: تعزيز القوة الاقتصادية الجماعية لمواجهة الهيمنة الغربية.
التحديات والفرص أمام العالم العربي والإسلامي
في ظل هذه التحولات العالمية، يواجه العالم العربي والإسلامي تحديات وفرصاً فريدة:
1. إعادة تعريف العلاقات مع القوى العالمية: على الدول العربية والإسلامية أن تعيد صياغة علاقاتها مع كل من الغرب والقوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، بما يحقق مصالحها الاستراتيجية.
2. تعزيز التعاون الإقليمي: في عالم متعدد الأقطاب، يصبح التكامل الإقليمي أكثر أهمية. تعزيز التعاون الخليجي -كما تقول الدراسات- يمكن أن يزيد الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة بنسبة 5% خلال خمس سنوات.
3. الاستفادة من الفرص التكنولوجية: مع تسارع الثورة الرقمية، هناك فرصة للدول العربية والإسلامية للقفز إلى مراكز متقدمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية. مبادرة "نيوم" في السعودية هي مثال على هذا التوجه.
4. المساهمة في حل التحديات العالمية: قضايا مثل التغير المناخي والأمن الغذائي تمثل فرصة للعالم العربي والإسلامي للعب دور قيادي في الحلول العالمية. مبادرة "السعودية الخضراء" هي خطوة في هذا الاتجاه.
التحديات الداخلية والتوصيات
رغم الفرص الكبيرة، هناك تحديات داخلية يجب مواجهتها:
1. مقاومة التغيير: قد تواجه بعض المؤسسات التقليدية صعوبة في التكيف مع النظام العالمي الجديد.
2. الفجوة التكنولوجية: هناك حاجة لسد الفجوة التكنولوجية مع الدول المتقدمة.
3. التنسيق الإقليمي: تحدي توحيد المواقف العربية والإسلامية في القضايا الدولية.
لمواجهة هذه التحديات وتعظيم الفرص، قد يكون من المناسب النظر في التوصيات التالية:
1. تعزيز الدور داخل البريكس: على السعودية والدول العربية الأخرى الاستفادة من عضويتها في البريكس لتشكيل سياسات المجموعة. يمكن مثلًا إنشاء لجنة خاصة داخل البريكس للتعاون في مجال الطاقة المتجددة.
2. تطوير استراتيجية متوازنة: الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى. يمكن إنشاء منتدى سنوي للحوار الاستراتيجي مع الصين وروسيا، مع الحفاظ على الشراكات التقليدية مع الغرب.
3. الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار: تكثيف الاستثمار في مجالات التكنولوجيا المتقدمة لضمان موقع تنافسي في الاقتصاد العالمي الجديد. يمكن إنشاء صندوق استثماري مشترك بين الدول العربية بقيمة 50 مليار دولار لدعم الشركات العربية الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية وفق معايير صارمة.
4. قيادة إصلاح المنظمات الدولية: الدفع نحو إصلاح شامل للمنظمات الدولية، خاصة مجلس الأمن، لضمان تمثيل أكثر عدالة للعالم العربي والإسلامي. يمكن تشكيل تحالف دبلوماسي عربي-إسلامي للضغط من أجل مقعد دائم في مجلس الأمن يمثل العالمين. ويمكن لدىل منظمة التعاون الإسلامي التحالف مع الدول الأخرى التي لديها الممكنات للانضمام مثل الهند والبرازيل والمانيا ونحوهم.
5. تعزيز التعاون الإقليمي: تقوية آليات التعاون الاقتصادي والأمني داخل العالم العربي والإسلامي لمواجهة التحديات المشتركة. إنشاء سوق عربية ثم إسلامية مشتركة على غرار الاتحاد الأوروبي يمكن أن يكون هدفًا طموحًا ولكنه قابل للتحقيق على المدى المتوسط.
6. تطوير استراتيجية للأمن الشامل: وضع خطة شاملة تتعامل مع التهديدات التقليدية والجديدة، بما في ذلك الأمن السيبراني والأمن البيئي. يمكن إنشاء مركز عربي-إسلامي للأمن السيبراني يعمل على تطوير قدرات الدفاع الإلكتروني المشتركة.
7. الاستثمار في التعليم والتدريب: تطوير برامج تعليمية وتدريبية تركز على المهارات المطلوبة في القرن الحادي والعشرين. إطلاق مبادرات على غرار: "مبادرة "مهارات المستقبل" و "الجيل الرقمي" و"طويق 1000" و"مليون مبرمج عربي" يمكن أن تكون أساس صلب لهذا البناء.
وفي الختام، مع دخولنا العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، نقف على أعتاب عصر جديد في العلاقات الدولية. عصر يتجاوز المفاهيم التقليدية للقوة والسيادة والهوية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يمكن للمملكة العربية السعودية والعالم العربي والإسلامي أن يشكلوا هذا النظام العالمي الجديد بما يخدم مصالحهم ويعزز قيمهم؟ وكيف يمكننا الاستفادة من هذه التحولات لبناء عالم أكثر عدلاً واستدامة للأجيال القادمة؟
الإجابة على هذه الأسئلة لن تكون سهلة، لكنها ضرورية. فمن خلال الفهم العميق للتشابك العالمي المعقد، والعمل الجاد والتخطيط الاستراتيجي، يمكننا أن نضمن أن صوتنا وقيمنا ستكون جزءًا لا يتجزأ من المشهد العالمي القادم. إن مستقبل العلاقات الدولية لم يعد يُكتب في العواصم الغربية وحدها، بل أصبح للرياض والقاهرة وإسطنبول وجاكرتا دور محوري في صياغة هذا المستقبل. فلنكن على قدر هذه المسؤولية التاريخية، ولنعمل معًا لبناء نظام عالمي أكثر عدلاً وتوازنًا يحترم التنوع الثقافي ويحقق المصالح المشتركة لجميع شعوب العالم.